(أولى)

الحديث عن الهُوية هو حديث الذات الإنسانية في مختلف أبعادها ومختلف مستويات وجودها، فالإنسان يعيش في مكان وزمان معينين، ويعيش في مجتمع وظرف اجتماعي معين، أي أنه خاضع للفناء والتلاشي بحكم الزمان، وخاضع لضرورات اجتماعية وحياتية لا دخل له فيها بحكم العرف الاجتماعي والسلوك العام، وهو في الوقت ذاته قادر على التجاوز والتعالي على هذه الحتميات والضرورات بفضل وعيه وفكره واستطاعته على تطوير قدراته الذهنية والجسدية مما يجعله الكائن الوحيد الحر، كما أنه يعيش أوضاعا تاريخية تحكمه وتتحكم فيه، وهو في نفس الوقت الذي يصنع ويحدد هذه الأوضاع التاريخية بنفسه. هذا الوضع المليء بالازدواجيات والتناقضات، يجعل الوضع البشري موضوعا فلسفيا بامتياز خاضع لتساؤلات وإشكاليات فلسفية متعددة ويحيل إلى أبعاد ومفاهيم مختلفة.

(ثانية)

موجة التحول الفكري التي ركبها الكثير من رموز التشدد، تكمن كارثيتها في أن الرمز المتحول أحال حياتك جحيما مستعرا بفتاوى وأفكار خارج نسق الحياة السوية، ثم يتحول عن أفكاره وفتاويه تلك بعد زمن يطول أو يقصر، ليضعك كمتدين بسيط أو متابع عادي، في حيرة توازي قسوة التشدد والتنطع ذاته.

وتبرير عملية التحول بكونها صفة لازمة وملازمة للكائن الحي، أو أن المفكر الحر هو من لا تأسره الأفكار وينتقل من فكرة إلى ضدها بحرية، أو غيرها من التبريرات الواهية، ماهو إلا عذر فج لقبائح التأسيس والمنطلقات ابتداء.

مشكلة المتحولين فكريا أنهم فهموا الإسلام وفق مناهج مقولبة ومتكلسة معرفيا، وأضافوا إليها نسبة تقل أو تكثر من القصور البشري أو الخطأ ثم أعادوا إنتاج تلك المفاهيم المقولبة مرة أخرى كخلاصات أو قواعد شرعية واجبة الأخذ أو واجبة الترك، وعندما جاءت محكات حقيقية لفحص تلك المفاهيم تهاوت مع أول ضربة في أذهان أصحابها، ومع هذا كله يبقى التحول صفة إيجابية، ما دام موافقا للمفاهيم والقيم الإنسانية العليا، أما تحول الرموز فهو محل نظر وتحفظ كبير لدي للسبب الذي ذكرته في بداية الإجابة، خصوصا أن تورط الرمز في دم أو تكفير. عن نفسي لا أثق كثيرا بتحولات الرموز.

(ثالثة)

فكر الجماعات المتطرفة، متراكم بُني على مدار عقود طويلة، وهو فكر له خاصية التحول والتقولب والكمون والظهور في فترة دون أخرى، ومجتمعنا المسلم له منطلقات شرعية ينطلق منها بطريقة معينة فينتج رؤية وفكرا تؤسس لعمل حضاري متسامٍ ومتسامح، ذات المنطلقات يمكن الانطلاق منها لتأسيس فكر قاتل ومدمّر يهدم كل جميل في الحياة. الفيصل هنا وهناك هو الفهم البشري للنص ومدى إنزاله بالشكل الصحيح على الواقع، إضافة إلى غياب أو حضور القيم الإنسانية العليا.

وما يمكن أن يقود المجتمع للتغيير والتحول إلى مناطق آمنة هو السياسة والاقتصاد المتزن، والعمل على استغلال الثغرة الواسعة التي أحدثتها الأجهزة الذكية (التقنية) للدخول على المناطق المغلقة والمعتمة من المجتمع والتي استطاعت تلك الأجهزة اختراقها بجدارة وأثرت فيها.

تبقى معضلة الخطاب الديني هي البحث عن تحقيق المعادلة المستحيلة: وهي طهورية المجتمع، ومن هنا جاء الانفصام بين الأقوال والأفعال فتجد الفرد يناقض رأيه فعله بسبب ضغط الخطاب الديني وبعده عن طبيعة النفس البشرية. المفارقة أنّ الدور الأكبر لمعالجة ظاهرة التطرف مناط بهذا الخطاب وهنا تكمن الإشكالية، في خطاب ديني عالي الصوت يكفر المختلف عقائديا ويروم في الوقت ذاته معالجة التفجير وإهدار الدماء، وهما من مقتضيات التكفير على مستوى التطبيق، لذا لا بد من إعادة تحديث وتغيير الخطاب الديني أولا. ولا أعني تجديد الخطاب الديني كما يرد في أدبيات الإسلاميين، فهما مختلفان في نظري، الأول تغيير وولوج على فضاءات جديدة تماما في الفكر الإسلامي الحضاري والذي يزخر به الإسلام. أما الثاني فهو إعادة بث مفاهيم إسلامية مدروسة في نظر أولئك الإسلاميين وفقا لذات المنهج وذات الفكر، وهنا نكون أعدنا الدوران مرة أخرى في حلقة مفرغة.

(رابعة)

لا أرى ثمة مشكلة في تداخل الخطاب الديني مع الخطاب السياسي، متى ما فهم الديني وأدرك البعد الإستراتيجي والتكتيكي للخطاب السياسي والفعل السياسي، ولكن يغلب على الخطاب الديني التخلف عن ملاحقة الخطاب السياسي، وذلك لظروف متعددة من أهمها: مباشرة وتلقائية الخطاب الديني مقارنة بدهاء السياسي الذي يحتمه عليه المصلحة والواقع والحال، وكذلك تخلف الديني عن إدراك السياسي للواقع واطلاعه على الظروف الواقعية، والتي تأتي في مقدمتها الظروف الجيوسياسية والنزاعات العرقية والإثنية في المجتمعات المجاورة أو المنافسة إقليميا، لذلك يفضل دوما بُعد الخطاب الديني وفصله عن الخطاب السياسي لما قد يجره على البلاد والعباد من مصائب ومحن هما في غنى عنها.

(أخيرة)

لإشاعة الفنون وتبني نشر الحب والتسامح والتعايش وإفشاء قيم الجمال والعدل والخير أثر كبير في مكافحة التطرف والقضاء عليه، كما أن التركيز على النشء وإعادة صياغة المناهج الدراسية، وتبني تجديد كامل وشامل لمنبر الجمعة، وإتاحة الفرصة للمرأة الأم، والمرأة العاملة، والمرأة المبدعة، لقيادة الحلول والبدائل وتوجيهها لمكافحة هذه الظاهرة، نتائج باهرة وغير متوقعة، وهو ما تثبته الأيام، يوما عن يوم.