كان اكتشافي للغة الشعرية الجديدة التي استحدثتها حركة الشعر الجديد، مقترنًا بالمد القومي من ناحية، وشيوع الفكر الماركسي والوجودي من ناحية أخرى، وسرعان ما جرفني نهم الرغبة فى المعرفة إلى قراءات متشعبة، بدأت في صورة محاولة عجلى للمتابعة، ثم تحولت إلى برنامج مكثف أحاول من خلاله التهام العالم فكريا. كان المد القومي يرتكز فى منطلقاته الأولى على كتابات ساطع الحصرى حول القومية بشكل عام والقومية العربية بوجه خاص، وعناصر هذه القومية ومقوماتها. لكن الحس التاريخي العاطفى كان يدبغ كتاباته ويكاد يشع فى قرائه المتحمسين لونًا من شوفينية الانتماء لا تخلو من مسحة تعصب ثم كانت كتابات الدكتور عبدالله عبدالدائم - المفكر السوري- على صفحات الآداب البيروتية، وكتابات منيف الرزازـ المفكر الأردني. وأذكر أني انشغلت طويلًا بمحاولة التفريق بين معنى الالتزام عند الماركسيين والوجوديين، فقد كنت أرى المسافة بينهما- في هذا الأمرـ شديدة الضيق، وأحيانًا غير قائمة. كان حديث سارتر عن الحرية والمسؤولية جديدًا وباهرًا وتصويره لجحيم الآخرين مفزعًا وصارمًا، وكان ارتكاز المسؤولية ـ في الفكر الوجودى - على الحرية معنى جميلًا نتحلق من حوله ونتناقش حتى مطالع الصباح. كانت بيروت في تلك السنوات- منتصف الخمسينيات - تمدنا بما توقفت عنه القاهرة، بعد أن بدأ دورها الثقافي يتقلص، ومشروعها للترجمة يصيبه التوقف والتشرذم. وكانت مترجمات دار اليقظة السورية لروائع الأدب الروسي وكلاسيكياته، ومترجمات منير البعلبكي - عن دار العلم للملايين ومترجمات دار الآداب لصاحبها سهيل إدريس، تمثل في مجموعها غذاءنا الروحي اليومي خلال تلك السنوات مازلت أذكر سطور سارتر عن الالتزام في كتابه ما الأدب عندما ترجمه أستاذنا الدكتور محمد غنيمي هلال - رائد دراسات الأدب المقارن في الجامعات المصرية والعربية ـ وكيف أنه كان يرى أن مجال الالتزام الحقيقي هو «النثر» حيث ينحصر جهد الكاتب في الإعراب عن المعاني، وميدان المعاني هو النثر، أما الشعر فهو كالرسم والنحت والموسيقى لا يقبل الالتزام. فالبحث عن الحقيقة لا يتم إلا باستخدام اللغة أداة، وليس هذا شأن الشاعر، إذ الكلمات لديه عوالم صغيرة يخدمها هو بدل أن يستخدمها. كان سارتر يرى أن أزمة اللغة التي حدثت في هذا القرن العشرين ليست إلا أزمة شعرية، ومهما بكن لها من عوامل وأسباب اجتماعية وتاريخية، هكذا كانت كتابات «سارتر» تشغلنا وتؤرقنا وهو يتساءل: ما الكتابة؟ ولماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ وكنا نحن نكتب دون أن تشغلنا هذه الأسئلة التي نظنها بديهية وساذجة. فإذا بها كمين متفجر يؤدي بنا إلى صميم الفكر السارتري في مجال الإبداع الأدبي، وتحديده لموقف الكتاب ما في العصر الحديث، وتفرقته الحاسمة بين يسميه بالقراء وما يسميه بالجمهور.. ومتى يكون للكاتب قراء ومتى يكون له جمهور. كان كتاب «لوفافر» عن الماركسية وكتاب «البيريس» عن الوجودية يمثلان وجهين مختلفين لقلقنا الفكري والمزاجي وكان حصاد هذا القلق على مستوى الإبداع الشعري ضئيلًا للغاية. فقد أصابني ما يشبه التوقف عن الشعر. كانت الحالة الشعرية تتضمن بطبيعتها قدرًا من الغيبوبة والاستغراق والتشبث بالظلال الفاصلة بين درجات الألوان. وكانت هذه القراءات في السياسة والاقتصاد والفلسفة تمدني بوضوح ساطع قاطع، يفر من مواجهته طائر الشعر، وتتبدد أمامه اللحظة الشعرية بعفويتها ولا شعوريتها وامتياحها من أعماق بعيدة وآبار تحتية. وفى هذا الوهج الساطع بدأت الظواهر والمشكلات تتحول بالنسبة لي إلى معادلات وأرقام وأسباب ونتائج. وكان هذا يمثل بالنسبة لى بداية أيام مليئة بالجفاف. لقد منحنى وعى القراءة حلولًا سريعة لتغيير العالم، وكان قربى من دوائر الأصدقاء يعطيني الإحساس بقرب الخلاص، وأن العالم العربي الواحد الذي نحلم به في طريقه إلى التشكل، وبه يصنع الآن أمام عيوننا وبأيدينا في أقطار عربية.

لقد كانت «المثقفون» رواية سيمون دي بوفوار بين إيدينا ونحن نتابع هذه الحال غير عابئين وكان سيناريو الدوامة لسارتر نتخاطفه ونقرؤه في ترجمته العربية يطلعنا على الأبعاد الدامية لنفسية المتسلط وتنكره لكل معاني الرفقة والصداقة والأخوة في الكفاح والنضال.

1988*

* شاعر وإعلامي مصري «-1936 2016».