هناك مدن في هذا الكون تشبه البشر، مدن لها وجه يابس، وأخرى منطفئة، وهناك مدن لها سحنة غير بريئة، ومدن ناصعة البياض، ناعمة الجسد، عاشقة ومعشوقة، يسهل الولوج إلى عالمها، منذورة للحب والسحر والدهشة، إنها ملهمة الشعراء وحورية الجبال، إنها سيدة المدائن، شجرة الفصول الأربعة، حلوى الأطفال، صلابة الرجال، وردة العاشقين، اخضرار الحياة، مزرعة الأحلام، بستان الموسيقى العذبة، محبرة الشعراء، مليحة عاشقاها العطر والمطر، أسموها في بطون المعاجم والأثريات إيفا وهيفا، وغيرها من الأسماء، وقيل هي جمع بهاء وبهو وبهي، أي الجمال والحسن والإشراق، حتى في رسم صورة اسمها اختلفوا، قالوا أبهاء بالهمزة، وحذفت للتخفيف وقصر المد، وقالوا تكتب بالألف المقصورة، كما أكد ذلك الأديب عبدالقدوس الأنصاري رئيس تحرير مجلة (المنهل) لأن الألف جاءت رابعة، وقيل تكتب بالمقصورة إذا جاءت وصفًا كقولنا (جاء بأبهى حلة) ترى هل كل البشر يرون (أبها) كما نراها؟.

نحن نعلم أن ما تراه جميلا قد يراه غيرك قبيحًا، والمطر في بلادنا يعني يومًا رائعًا، وفي بلاد أخرى طقسًا سيئًا، هناك شاعر يقول:

سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب

يقولون: الاختلاف في العطر لا يفسد للورد قضية، قد ترى العالم كما هو عليه، ولكنك تراه من خلال ما أنت عليه، الاختلاف أدب والتعبير عنه فن، زار أبها قبل 44 عامًا شاعر يدعى (أحمد البدري ) وكانت زيارته في فصل الشتاء، حينها أفصح الشاعر عن خيبته وهيجانه وضيقه ورفضه لكل ما قيل عن هذه المليحة والفاتنة، حيث أوغل في شتمها والسخرية من صورتها المستقرة في أذهان البشر، والمعاني المتخيلة لها والتي ترفعها إلى مصاف الأساطير، إنها بلد المشقة والعناء والجدب وقسوة الحياة كما يراها، بردها غدار وخوان وشر يقظان، شمسها مؤذية، طقسها زمهرير كأن فيه ثعبان يسير، شتاؤها يلسع كالحية الرقطاء، شوارعها خطها الشيطان، مدينة تصيبك بالاكتئاب، آبارها تسكنها الجن، غبارها يعمي العيون، جمالها زور وبهتان، ليس فيها وحق الحسن بستان، إنما هي أطلال وكثبان، يا ضيعة الحسن في أبها، لا تصدق من مدحوها، ليس فيها إلا الفقر ولسع البرد، يقول الشاعر البائس أحمد البدري:

أبها بها البرد غدار وخوان ...فانهض فإن لباس الصوف معوان

وخذ حذارك لا تأمن غوائله... فسطوة البرد فيها الشر يقظان

ولا تطع شمسهاإن ذر شارقها ...فكم تأذى به في القوم إخوان

لما أتيت إليها قلت واعجبا ... أزمهرير توارى فيه ثعبان

للسعة الحية الرقطاء إن غشيت ...أخف من لسعة والجسم وهنان

شوارع البلدة المظلوم زائرها ... كأنها خطها من قبل شيطان

يسير فيها غريب الدار مكتئبا ... والجسم في نصب والقلب حيران

مصعدًا للسما قد هده تعب ... ونازلا عمق آبار بها الجان

وللغبار بها جيش له لجب ... يعمي عيون الألى في دهرهم كانوا

لا سامح الله من أثنوا على بلد ... لا يستريح به في الدهر إنسان

كم قد أفاضوا وقالوا في محاسنها ... فظل زعم لهم، زور وبهتان

أين البساتين قالوا ما أكيثرها... وليس فيها وحق الحسن بستان

قالوا: الأزاهير والريحان منظره ... يسبي عقول الذي يسبيه ريحان

فما رأينا بها وردًا ولا زهرًا ...وإنما هي أطلال وكثبان

ياضيعة الحسن في (أبها) ويا أسفا ... على زمان مضى فيها له شان

فلا تبادر إذا ماقيل حي إلى ... أبها وحوقل وقل يارب غلبان

ولا تصدق بعيد الآن إن مدحوا ... شيئًا وحاسب فعقل المرء ميزان

وانفر بجلدك ليس العمر مضيعة ... وليس في البعد عند الهم أعوان

واشكر لربك أن نجاك من بلد ... الفقر فيها ولسع البرد صنوان

لولا رجال بها غر ذوو كرم ... لقلت (أبها) لمن يأتيك ندمان

وقد رد على هذا الشاعر الدكتور (زاهر بن عواض الألمعي) بقصيدة رائعة تمتلك المتانة، وفخامة المعنى، وعلو الإبداع، في مكاشفة جريئة، ورد صاعق، على تلك القصيدة المأزومة، وبهتان ذلك الشاعر المجهول، سنقرأها في الحلقة القادمة بإذن الله.