أطلق ألفريد ماهان المؤرخ والجيوسياسي والضابط في البحرية الأمريكية في أوائل القرن التاسع عشر مفهوما جديدا للقوى البحرية مفاده «أن من يملك البحر يملك اليابسة»، وأنك «إن كنت تريد السيطرة على العالم، فإن هذا سيتحقق من خلال السيطرة على الطرق البحرية التجارية الرئيسية في العالم»؛ وهو ما عرف بنظرية ماهان التي انعكست لاحقا على صياغة الفكر الإستراتيجي للقوى البحرية في العالم عامة، وعلى القوة البحرية الأمريكية خاصة، والتي طورت من قواتها ونفوذها البحري منذ ذلك الوقت وحتى الآن، حيث تعد أكبر بحرية في العالم وأقواها عدة وعتادا وانتشارا. ولأهمية تطبيق مبدأ هذه النظرية سارعت الدول الكبرى حول العالم خلال حقب التاريخ المختلفة إلى فرض سيطرتها على المعابر المائية المهمة ومحاولة عقد تحالفات تضمن لها النفوذ البحري تجاريا وعسكريا في تلك الممرات، ومن أشكال هذا التحكم، أخيرا، ما قامت به روسيا من استئجار قاعدة ميناء طرطوس شمال شرقي سوريا لتشكيل نفوذ روسي في البحر الأبيض المتوسط، سبقه ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وتحالف روسي صيني لإحياء طريق الحرير البحري القديم بإنشاء قواعد بحرية صينية في القرن الأفريقي ومضيق هرمز، مرورا ببحر الصين حتى المحيط الأطلسي.

تنشط في الآونة الأخيرة حروب ظل مستمرة منذ عامين بين قوى بحرية في مختلف المسطحات البحرية في الشرق الأوسط آخرها ما تعرضت له في نهاية فبراير المنصرم سفينة عسكرية إسرائيلية من تفجير في خليج عمان تأثر به السطح الخارجي للسفينة واتهمت فيه إسرائيل إيران بتنفيذه وهو ما نفته طهران، تبعه إصابة سفينة الحاويات الإيرانية «شهر كرد» في البحر الأبيض المتوسط، الأربعاء الماضي، بشحنة متفجرة أعلنت طهران على إثرها، السبت، اتهامها إسرائيل بقيامها بهذا التفجير، في سلسلة من التفجيرات التي تستهدف ناقلات نفط أو حاويات بحرية أو سفنا تجارية في المنطقة الملتهبة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، لم تسلم منها ناقلات النفط السعودية من هجمات إرهابية من أذرع إيران سواء في البحر الأحمر أو الخليج العربي وخليج عمان.

ولأن المملكة العربية السعودية تملك سواحل ومنافذ بحرية طويلة ومهمة تقدر بنحو 3400 كيلومتر شرقا على الخليج العربي وغربا على البحر الأحمر، مع عدد كبير من الجزر في شرقها وغربها، فإن هذه السواحل لها أهميتها الخاصة لدينا التي تحميها عسكريا القوات البحرية الملكية السعودية بقواعد مختلفة على الوجهتين. وكان للخليج العربي أهميته الخاصة لوجود حقول النفط السعودية عليه وحوله، ومن أهمها ميناء رأس تنورة أكبر منشأة بحرية في العالم لتحميل النفط والتي تتحكم بما يقدر بـ7% من النفط العالمي، والذي لم يسلم من تعريض أمن وسلامة هذه الوجهة أكثر للهجمات الإرهابية الإيرانية أكثر من مرة كان آخرها في السابع من مارس الحالي وتعريض سلامة المواطنين والعاملين في هذه المنشآت للخطر باستهدافها بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة فضلا عن تهديد إمدادات الطاقة العالمية.

مع استمرار التمرد الحوثي في اليمن المدعوم من إيران تزداد أهمية تأمين المنافذ البحرية المطلة على البحر الأحمر والموصلة إليه التي تستخدمها الدول المعادية لإمداد هذه الميليشيات بالأسلحة التي تستخدمها في تهديد المملكة وأمن المنطقة، بخاصة مع تزايد اهتمام الدول المختلفة بإنشاء قواعد عسكرية وتجارية في القرن الأفريقي (كتركيا والصين)، وما ناقلة النفط العائمة «صافر» التي ترسو قبالة ميناء الحديدة منذ ست سنوات والتي تعرقل الميليشيات الحوثية وإيران وصول الفريق الفني التابع للأمم المتحدة إليها للفحص والصيانة إلا مثال على تهديد أمني وبيئي واقتصادي وإنساني كبير في البحر الأحمر وعلى أهمية التدخل الأممي الصارم لحماية هذا المسطح المائي.

مبادرة المملكة العربية السعودية والدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر بتأسيس مجلس تنسيقي يضم الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن في مطلع عام 2020 تأتي لإدراك أهمية تأمين هذه المنطقة البحرية من العالم من الدول التي تملك سواحل مطلة عليها وتنسيق تعاون مشترك بينها أمنيا واقتصاديا يعود على شعوب هذه الدول بالفائدة بشكل أساسي وعلى تأمين ممرات التجارة العالمية التي تعبر من خلالها بالتالي.

وإدراكا من قيادتنا الحكيمة لأهمية البحر الأحمر وامتلاكها أطول سواحل مطلة عليه فإن صور تفعيل هذا القوة البحرية للبحر الأحمر لم تكن في الجانب العسكري والسياسي فقط، بل عبر عدة مشاريع وخطط إستراتيجية كبرى قائمة وقادمة. منها استغلال هذه الواجهات البحرية لتعزيز الاقتصاد المحلي من خلال إنشاء مشاريع سياحية كبرى ونوعية مطلة على البحر الأحمر وفي جزرها البكر كمشروع نيوم العابر للحدود، ومشروع البحر الأحمر المتضمن لأرخبيل من 90 جزيرة في البحر الأحمر أعلن عن أول استثمار لأحدها في جزيرة «كورال بلوم»، ومشروع «آمالا» جنوب مدينة نيوم.

التنوع البيئي الممتد على طول سواحل البحر الأحمر، وما تشمله من رواس وخلجان وشروم وألسنة ذات ثراء مرجاني وإحيائي وتدفقات مائية دافئة طيلة العام، وحيد صخري يعد الرابع في كبره عالميا، مع ثروات معدنية وتاريخية في قاع البحر، وتنوع شعبي وحضاري وإنساني على سواحله تجعل من فرص الاستثمار السياحي لبقية امتداد هذا الساحل كبيرة ومستمرة، فضلا عن أهمية إحياء الموانئ القديمة التي كانت تطل على البحر الأحمر في جنوب المملكة كميناء القحمة التاريخي، مع إحياء الطريق الساحلي عن طريق ربطه بسكك حديدية لنقل البضائع التي ستعمل على استقطاب الأيدي العاملة وإنعاش القرى والهجر الصغيرة المتاخمة له من شمال المملكة حتى جنوبها.

إن القوة التي تملكها المملكة العربية السعودية بامتلاكها هذا الشريط الساحلي الممتد على البحر الأحمر، ليس فقط قوة تتحكم عسكريا وسياسيا في المنطقة، بل قوة اقتصادية صلبة وناعمة تجعل تحكم المملكة على هذا المسطح المائي أكثر فاعلية واهتماما من المحيط الأممي. وبهذا تصبح نظرية ماهان للقوة البحرية تأخذ منحى مختلفا؛ ليست مجرد قوة وعتاد عسكري فحسب، بل حضور اقتصادي وحضاري يليق بهذه المكتسبات الفريدة.