بعيداً عن الربيع العربي وثوراته ومداها، وعن المبالغ الهائلة لصفقات لاعبينا المحليين، ونتائج السحر في التأثير على أنديتنا، أوعن وزن مخدرات (الجيزاوي) وتاريخ صلاحية لبن جهينة الذي كان معه، أو عن توقف قطاراتنا الجديدة (الحديثة) للصيانة الدورية..! سنتجاوزها وننتقل إلى (ليلة) استثنائية خالدة عاشتها العاصمة الإسبانية (مدريد) الأسبوع الماضي، حيث شرعت فيها المكتبات العامة والتجارية أبوابها لزائريها حتى الساعة الواحدة ليلاً، قابلتها خصـومات تنافسية في مبيعاتها وصلت إلى نسب مرتفعة، أما مكتبة معهد ثرفانتس - معهد متخصص لتعـليم اللغة الإسبانية خارج إسبانيا - فقد قامت بتوزيع الروايات لعظماء المؤلفين الإسبان مجاناً من الساعة السابعة مساءً حتى الحادية عشرة ليلاً، وأرتال من البشر اصطفت من أجل كتاب، نافست تلك (الليلة الإسبانية) الحضور الجماهيري الطـاغي تـزامناً مع تـوقيت مباراة لفريقي برشلونة وتشيلسي، تلك الليلة أعادت نفسها كذلك عندما سحبت البساط حضوراً من هوس فريقي ريال مدريد وبرشلونة من العام الماضي، تلك الليلة وزعت فيها رقاع الدعوة على جميع المجتمع الإسباني، صاحبتها تغطيات إعلامية (مجانية)، وبرامج وعروض مغرية لليلة تباركها الحروف لقيادة الأمم فقط كما يقول (فولتير)!

الدبلوماسي السعودي الأنيق في السفارة السعودية بمدريد سفر آل سفر يروي لي هذه اللوحة الجميلة عن تلك الليلة: "الطقوس زاهية تحفها أوراق ملونة، تتخللها كلمات من كل مواضيع الحياة واتجاهاتها، فلا تستغرب أن يكون في مدريد من كل عام عقد شراكة من البلدية والمكتبات المحلية وبعض المؤسسات المدنية التي لها علاقة بالثقافة وتقوم بتوزيع آلاف الروايات المختلفة مجاناً في جميع أنحاء مدريد، في الأماكن العامة، في الحدائق والمطارات والقطارات، تجدها على الكراسي، في الممرات المهم أن تجد كتاباً، والملفت أيضاً بعد انتهائك من قراءته تعيده في مكانه ويحق لك أن تضعه في مكان عام آخر، أو تتصل على الجهة التي وزعته لأن رقم هاتفهم على الكتاب ليحضرون لاستلامه منك حيثما تكون في مدريد، أما (الكتاب) فحمايته واجبه أينما كان فهو يحوي غلافاً بلاستيكياً ليحميه من المطر فقط!".

(ليلة إسبانية) خالدة.. تتبعتها في العالم فوجدتها تزدهر توهجاً ولم تكتف بمدريد فقط بل تزامنت معها امتداداً وتضامناً مع اليوم العالمي للكتاب؛ ففتحت السفارات الإسبانية أبوابها لإحياء هذه المناسبة العالمية شريطة أن يفتتحها السفير الإسباني أو من ينوب عنه في البلد المضيف بقراءة جزء من رواية لكاتب إسباني مشهور، ففي نواكشوط وكوالالمبور قُرئت رواية "دون كيشوت" للكاتب الإسبـاني ميغويل دي سيرفانتيس باللغة الإسبانية وبلغة البلد المضيف، وفي القاهرة كان هناك قراءة مستمرة لرواية "دون كيخوتا" للكـاتب الإسباني الشهير ميجيل دى ثربانتس، تلك القراءات كانت على مدار الساعة في كل المعاهد الثقافية الإسبانية حول العالم يتبعها فتح مكتبات السفارات الإسبانية وتبادل كتبها وتـوزيع جـوائز عن مسابقات أدبية تشجيعاً للقراءة والاحتفاء باللغة الإسبانية وكتابها وليلة خالدة.

تتبعت تلك الليلة وتساءلت.. هل مرت من عندنا؟.. فوجدت أسفاً أننا مشغولون كثيراً بما هو أهم في حياتنا وتبعاتها وهفواتها ومستقبلها، وجدت أنفسنا مُتجاهلين بل (مُغيّبين) عن هذه التظاهرة الثقافية العالمية وغيرها، فلم تلتفت جهاتنا المعنية بها بدءاً من وزارة الثقافة والإعلام ونواديها الأدبية ومكتباتنا الضخمة التي نتشدق بأرقام الكتب فيهـا وأرقـام الملايين المهدرة على تنظيف أغلفة كتبها! لنستمر ونشـارك عبر السنـين فيما يُفاقم ضعف القراءة لدينا وتعميق أسبابها، وتُجعل مشكلتنا ذات جذور وأبعـاد متعددة، فسلمنا مستقبل أطفالنا للمؤسسات التعـليمية التي لم تستطع حتى الآن أن تشارك في تنمّية قيم القراءة والقراءة الحرة لطلابها، ولم تصل حتى إلى تشجيع التفكير المنـهجي الحر لخلق ثقافة الإبداع من حيث المقررات والمناهج أو ترسيخ ثقافة القراءة أصلاً، وبعدٌ آخر متغلغل في عزلة مجتمعنا وأسرنا عن القراءة، فهي لا تفكر ـ مجرد تفكير ـ بتشجيع أبنائها ليزداد خطر المشكلة في قوالب (توارثية)! ليكون ضعف القراءة بأنواعها مشكلة مستدامة تدق في وجه مستقبلنا نواقيس الخطر للوصول للكسل الفكري والوهن التفكيري والإدبـار عن تفهم المعرفة وصناعة الحيـاة، فمـاذا لو غادرت الكتب (غُبار) جدرانها المعتقة من مكتباتنا لتغدو متنقلةً في كل مدرسة وحي وسوق؟ وماذا لو أقمنا عدة معارض للكتاب في كل مدينة من خارطة وطني؟ وماذا لو تبرع كل بنك لدينا بتبني طباعة كتاب ودعم مؤلفه ووزع كتابه بالمجان؟.. أم أننا اكتفينا بمعرض كتاب سـنوي (كبيضة ديك) نعيش صراعاته أشهراً للعام التالي، ما بين أنواع الكتب وفسحها، أو في متابعة تحركات الهيئة وسكنات المحتسبين!

عفواً.. وحتى أكون منصفاً فلقد تذكرت عندما قرأت خبراً في تلك الليلة بأننا أقمنا (أول) احتفال بهذه المناسبة في مدينة الرياض كما صرح وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية، ولكنني أسفاً تـوقفت عن ذكره هنا لأن الدروع التذكارية في تلك الليلة وزعت أكثر من الكتب والحديث عنها!