اتصلت بي الصديقة «أوراس» من إذاعة الشرق التي تبث بالعربية من باريس، قالت إن برنامجها يبحث عن إجابة لسؤال وحيد موجه لعدد من الكتاب، والسؤال هو: ما هي الحادثة الهامة في حياتك التي جعلت منك كاتبا؟.

في البداية استنكرت، بيني وبين نفسي، أن تكون هناك حادثة أو لحظة واحدة لها مثل هذا التأثير، طلبت منها أن تمنحني مهلة، واتفقنا أن تتصل في الغد.. رحت أفكر في السؤال الذي لم يشغلني أو يخطر في بالي من قبل، عدت إلى السنوات البعيدة ورأيت أنني أردت دائما أن أكون كاتبا.

رغبة غائمة، إلا أنها ثابنة أو أنني، على الأقل، لم أشأ أبدأ أن أكون شيئا آخر، إلا أن «أوراس» كانت محقة في سؤالها، لا بد أن هناك لحظة ما كانت مؤثرة على نحو أو آخر، رأيتني وقد عدت إلى أكثر من أربعين عاما، حيث عملت بهيئة البريد، أقوم بالتدرب في منطقة قصر الدوبارة.

كان من يقوم بتدريبي اسمه سعد، كان نحيلا وأكبر مني، وفي ظهره انحناء خفيف، وكنت أحبه وأرى فيه ما يدعو إلى الثقة، كنا انتهينا من العمل وقفلنا راجعين، وقد طوينا حقائبنا الجلدية التي صارت خالية في شارع عبد القادر حمزة خلف السفارة الأمريكية في طريقنا إلى شارع قصر العيني، لكي نستقل إلى العتبة الخضراء حيث مقر هيئة البريد، لا أذكر إن كنت أجيب على سؤاله أو أنني كنت أعبر عن رغبتي، ولكني قلت:

«أريد أن أكون كاتبا».

وأنا أذكر الآن كلماته جيدا، قال إن أي إنسان ما دام عنده موهبة، ويريد أن يكون كاتبا، فإن عليه أن يقرأ ويقرأ ويقرأ. وكل الكتاب الذين تسمع عنهم، يفعلون ذلك.

كنت مثل واحد ضائع، لا يعرف أنه كذلك، ثم جاء رجل رفع يده وأشار بإصبعه، فعرف صاحبنا أنه كان ضائعا، ومنذ تلك اللحظة البعيدة، وحتى اليوم، لم أتوقف أبدا عن القراءة، تلك كانت حادثة أولى، إشارة إلى طريق.

ولكن، إذا ما عرف الواحد طريقه، أن يكون كاتبا، مثلا، بقي أن يعرف ما الذي بوسعه أن يكتبه، كنت أدون أفكارا وأشعارا شأن معظم الشباب في سني إلا أنها، بالطبع، لم تكن كتابة، وكنت قد اهتممت، بعد انكباب على الشعر القديم، بدراسة تاريخ المسرح وقراءة نصوصه المتاحة وهي كثيرة، أثناء ذلك كنت توقفت عند المسرحيات الفاتنة للروسي الكبير تشيخوف: «طائر البحر»، و«بستان الكرز»، و«الخال فانيا»، و«الشقيقات الثلاثا»، وبعدما أطلعت على مسرحياته القصيرة الأخرى رغبت في استكمال معرفتي بعالمه بالاطلاع على أعماله القصصية، عثرت على المختارات التي كان ترجمها أستاذنا الدكتور محمد القصاص، وما إن قرأت القصة الأولى المعنونة «موت موظف» حتى أيقنت أن هذا بالتحديد هو الإطار الذي يلائمني، الإطار الذي يمكنني أن أودعه كل ما حلمت به، أيا كانت قيمة هذه الأحلام، أو الأوهام، آمنت تماما بأنني لست سوى كاتب للقصة القصيرة، ليس أكثر من ذلك، ولا أقل، تلك كانت حادثة ثانية، حددت الاتجاه،

أما الحادثة الثالثة التي كتبت الرواية بسببها فقد حكمتها المصادفة البحتة.

كنت قد عرفت ككاتب للقصة القصيرة، وكان العم الكبير نجيب محفوظ مهتما ومتابعا لما أنشره في ذلك الوقت، كنا نلتقي كل يوم جمعة بمقهى ريش ونتحدث حولها، وفي ذلك الوقت كنت أعمل بهيئة المواصلات بنظام الورديات، الأمر الذي جعلني أنقطع أحيانا عن لقاء الجمعة، وهو عندما عرف بطبيعة عملي تكرم بكتابة رسالة يزكيني فيها لمنحة تفرغ من وزارة الثقافة، أيامها لم يكن عليك أن تتقدم بنفسك لهذه المنحة، وسمعت الدكتورة لطيفة الزيات بالأمر فكتبت تزكيني هي الأخرى، وكذلك فعل الشاعر صلاح عبد الصبور، وحصلت فعلا على تفرغ لمدة عام قابل لتجديد.

ونشر الخبر باعتباري حصلت على التفرغ لكي أكتب رواية، وعندما قلت إنني لا أكتب روايات، ولكن قصصا قصيرة علمت أن التفرغ، زمان، لم يكن يمنح إلا لكتابة الرواية أو المسرحية الطويلة أو البحث، قلت «خلاص.. نكتب رواية». هكذا كتبت «مالك الحزين».

والتجربة طرحت مجموعة مستجدة من المشكلات الفنية، وكان من الضروري اختبارها في عمل آخر، وهكذا.

إلا أنني لم أتوقف أبدا عن كتابة القصة القصيرة. تلك كانت حادثة ثالثة. وأنا أخبرت أوراس أنه ليس مهما أن نحقق أحلامنا أو لا نحقق، فالأمور لاتقاس بنتائجها ولكن بما نبذل من جهد.