تتنافس الدول المتقدمة المعنية بالاهتمام بالبحث العلمي والتطوير والابتكار؛ في ضخ مزيد من الإنفاق السخي من موازنتها السنوية لذلك المجال التنموي؛ باعتباره أداتها للتفوق الصناعي، ووسيلتها لمضاعفة إنتاجها بقيمة اقتصادية عالية؛ تسهم في زيادة إنتاجها المحلي بمحتوى ذي قيمة مضافة، تتكون مع تراكم الإنتاج بمختلف مخرجاته الصناعية والتقنية وغيرهما. وعليه فإن التميز في هذا المؤشر، يعد معيارا لمستوى التقدم الصناعي للدول ومقياسا لما تحققه من منجزات قيمة، وبه تحصد الدول مكانتها الاقتصادية على مستوى العالم، وعليه تستند مكانتها السياسية وثقل وزنها الدولي، في ذلك السباق المحموم بالاستحواذ على الصدارة العالمية والريادة الدولية.

تشير التقارير الدولية المتخصصة، في رصد مخرجات البحث والتطوير في مسيرته الإنتاجية لنحو ستة عقود إلى؛ أن الصين أصبحت تتصدر دول العالم في حجم ما ترصده من إنفاق مادي للبحث العلمي والتطوير، والذي يقدر في عام 2021 بـ622 مليار دولار، بعد أن كان 574.4 مليار دولار في عام 2020، و533 مليار دولار في عام 2019، وبذلك تكون قد تفوقت على الولايات المتحدة التي كانت تتصدر القائمة العالمية في ذلك المجال حتى عام 2020، والتي يقدر إنفاقها في عام 2021 بـ599 مليار دولار، في حين بلغ إنفاقها 580 مليارا في عام 2020، بينما كان 597 في عام 2019، إذ كان لجائحة كورونا وتأثيرها على الاقتصاد العالمي، دور في انخفاض الإنفاق على البحث العلمي في عام 2020.

وبناء على التقرير المنشور لنحو 115 دولة؛ فإن الدول تتنافس فعلياً في مقدار الدعم المتنامي للبحث والتطوير، ويتوالى ترتيب الدول تنازليا بعد الصين والولايات المتحدة، في حجم الإنفاق، وتمثلها اليابان، وألمانيا، والهند، وكوريا الجنوبية، وفرنسا، وروسيا، وبريطانيا، ثم البرازيل فكندا...الخ، ويشير التقرير إلى أن هناك نموا سنويا كبيرا ومستمرا في استثمارات البحث والتطوير للصين لنحو 20 عاما، والذي كان نتيجة لتحسن نمو الإنتاج المحلي بنحو %2 في السنة الأخيرة، حتى أصبح هذا السبق الذي حققته رغم ضخامته، لا يشكل سوى %2 من نسبة موازنتها المالية في السنوات الثلاث الأخيرة.

وعلى الرغم من حدوث تغيرات نسبية بين الدول في تلك القيم، بناء على التغيرات الاقتصادية العالمية وما يصاحبها من تقلبات على المستوى المحلي والدولي؛ فإن وباء كورونا أدى لسرعة وتيرة هذه التقلبات، إذ يؤكد التقرير؛ أن هناك استمرارا ملحوظا في تراجع في ترتيب دول أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا؛ وفي استمرار خسارتها في حصص ريادة البحث العلمي والتطوير لعام 2021، رغم ارتفاع مستوى الإنفاق في ظل الانتعاش الاقتصادي العالمي؛ في حين أن آسيا «والصين على وجه الخصوص»؛ ستشهد تحسنا في حصتها في البحث والتطوير على جميع أنحاء العالم لعام 2021، إذ إن كلا من الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، سترفع من حصة آسيا في نسبة الإنفاق على البحث والتطوير إلى %46 في عام 2021، من معدل الإنفاق عليه على المستوى العالمي.

وعلى الجانب الآخر فإن مرتبة، مناطق الدول الأفريقية وأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط التي نشكل جزءا منها؛ ستستمر في ذلك التراجع للتسلسل الهرمي في الإنفاق على البحث والتطوير، والذي يبلغ إجمالي الاستثمار فيه لتلك المناطق مجتمعة نسبة %5 من إجمالي الإنفاق العالمي على البحث والتطوير، وذلك على الرغم من أنها تسهم بنحو %13 من جملة الإنتاج المحلي العالمي، بل وتؤكد المؤشرات عدم وجود مظاهر تحسن واضحة خلال الخمس سنوات المقبلة.

هناك مجموعة من المرتكزات التي تستند عليها نسبة الإنفاق على البحث والتطوير في الدول؛ والتي ترتبط بداية بمستوى الإدراك لمدى أهمية الاستثمار في الإنفاق على البحث والتطوير، والذي يعكس بدوره ما حققته الدول من منجزات في الميدان التعليمي والبحثي والإداري للمؤسسات، ومن جانب آخر، فإن حجم الإنتاج المحلي للدول ومستوى دخلها القومي؛ يحدد نسبة ما يستحوذ عليه البحث والتطوير من الإنفاق العام لموازنة الدولة، علاوة على حجم ما يُسهم به القطاع الخاص والمؤسسات الصناعية من المشاركة في الاستثمار في البحث والتطوير.

بموافقة مُقدرة من مجلس الوزراء؛ تقرر، أخيراً، إنشاء لجنة عليا للبحث والتطوير والابتكار؛ كأحد مستهدفات التنمية المستدامة وتطلعات رؤية 2030، نحو المضي قدما في بناء السعودية الجديدة، بما يتناسب مع ما تحققه السعودية من مكانة دولية مرموقة وقوة اقتصادية تحسب من مكتسباتها المستحقة، كإحدى مجموعة العشرين الأكبر اقتصادا في العالم؛ وفي ضوء ما حققته المملكة من مكانة متقدمة في مجال البحث العلمي على مستوى الدول العربية في العام المنصرم 2020، والذي أظهرته نتائج مؤشر «نيتشر» لعام 2020، بتقدم السعودية عالميا في حصة البحث العلمي، واستحواذها على المركز 29 عالميا، والذي جعلها تحافظ للعام الثالث على التوالي على مكانتها الدولية المتميزة، كأكبر حصة مساهمة من أبحاث الدول العربية، وثاني أكبر مساهم بين دول الشرق الأوسط وإفريقيا، فإننا نتطلع إلى مزيد من تطوير السياسات والإجراءات ذات الصلة بالبحث والتطوير والابتكار ومخرجاته العلمية، سواء في دعم بنيته التحتية ونوعية برامجه وتوجهاته التي تمثل فيها الجامعات ومراكز الأبحاث الوطنية مرتكزها الرئيس، أو في العمل المدروس على بناء شراكات كبيرة بين مراكز الأبحاث والجامعات، وبين مؤسسات القطاع الخاص والشركات الكبرى الصناعية، بما يخدم استثمار المعرفة وصناعتها، من خلال بلورة مخرجات الأبحاث العلمية وترجمة توصياتها، إلى منجزات ملموسة وصناعات قائمة تعزز من مكانتنا الاقتصادية وريادتنا الدولية المأمولة.