نبني كما كانت أوائلنا

كان المنصور معجبا بمحادثة محمد بن جعفر، ولعظم قدره يفزع الناس إليه في الشفاعات، فثقل ذلك على المنصور، فحجبه مدة، ثم لم يصبر عنه، فأمر الربيع حاجبه أن يكلمه في ذلك، فكلمه وقال: أعف أمير المؤمنين، ولا تثقل عليه في الشفاعات، فقبل ذلك منه.

فلما توجه إلى الباب اعترضه قوم من قريش، معهم رقاع، فسألوه إيصالها إلى المنصور، فقص عليهم القصة، فأبوا إلا أن يأخذها، فقال: اقذفوها في كمي، ثم دخل عليه، وهو مشرف على مدينة السلام وما حولها، فقال له: أما ترى إلى حسنها يا أبا عبدالله، فقال له: بارك الله لك فيما أتاك، وهناك بإتمام نعمته عليك فيما أعطاك! فما بنت العرب في دولة الإسلام، ولا العجم في سالف الأيام أحصن ولا أحسن من مدينتك، ولكن كرهتها في عيني خصلة! قال: وما هي؟ قال: ليس لى ضيعة، فتبسم، وقال: قد حسنتها في عينك بثلاث ضیاع قد أقطعتكها! فقال: لله درك يا أمير المؤمنين! إنك شريف الموارد، کریم المصادر ؛ جعل الله تعالى باقي عمرك أكثر من ماضيه، ثم أقام معه يومه ذلك.

فلما نهض ليقوم بدت الرقاع من كمه، فجعل يردها ويقول: ارجعن خائبات خاسرات، فضحك المنصور، وقال: بحقي عليك إلا أخبرتني وأعلمتني بخبر هذه الرقاع؛ فأعلمه، فقال: ما أتيت يا ابن معلم الخير إلا كريما، وتمثل بقول عبدالله بن معاوية:

لسنا وإن أحسابنا كرمت يوما على الأحساب نتكل نبني کما كانت أوائلنا تبني، ونفعل مثل ما فعلوا، ثم تصفح الرقاع، وقضى حوائج أصحابها جميعا.