كما أشرنا في مقال «افتراء غير متعمد على ابن خلدون»، ها نحن نسأل: هل سعد الصويان ومرزوق بن تنباك بدو أم حضر؟ وفق الشرط الخلدوني لم يعودا من البدو مهما بذلا من جهد وأبحاث أنثربولوجية في شأن البدو، بل إن مما يفقد أبحاثهم قيمتها

ما قد يقعون فيه من أحادية النظر لـ«البداوة» باعتبارها مسألة عرقية -حالتهما الكتابية تنفي بداوتهما كحالة شفاهيةـ فالبداوة مسألة مرتبطة بالجغرافيا والاقتصاد وخراب العمران، وما يستتبع ذلك من عادات ومفاهيم تتقاطع مع كل ما يشبهها حول العالم من أقدار الميلاد التي لا يد للإنسان فيها، فمن الأمور التي اتجهت بكاتب المقال للنظر الأوسع للإنسانية ما أصابه من «دهشة فكرية» بين فرحتين..

فالأولى شعر بها عندما قرأ رواية الحزام لأحمد أبو دهمان، حيث شعر أنها تتحدث عن أهله في جبال جنوب غرب السعودية، ثم جاءت الفرحة الثانية مع «الدهشة الفكرية»، عندما قرأ رواية «بلدي» لرسول حمزتوف، فقد تحدث حمزتوف عن أهله وجباله كما تحدث أبودهمان وأكثر، رغم أن حمزتوف كتب عن جبال داغستان وأهلها وريفها، فأدرك كاتب المقال أن «الإنسان هو الإنسان» سواء كان سعد الصويان أو إبراهيم الكوني، وأن الجغرافيا المتشابهة تصنع من الطباع تشابهاً يعيد لابن خلدون اعتباره في مفهومه عن البداوة كحالة وليست عرقا. كل هذا بعيدا عن تبجيل ابن خلدون أو تقديسه، وبعيداً عن مغالطات من استعجل الفهم عن ابن خلدون، ممن يعيش مع ضغوط الحداثة حالة من «النكوص» النفسي، يحتاج معها إلى تعاطي «أفيون الشوفينية»، وتوزيعه على المحتاجين ممن يعانون نفس إشكاله النفسي، لأسباب أخرى «سقوط الأيديولوجيات الكبرى قومية، إسلامية.. إلخ».

البداوة التي لا يحترمها أحد هي من تلبس «قشرة الحضارة والروح جاهلية» فتراها تنتقص من المجهود الفكري لمفكر نقدي لأنها لم تستطع أن تستوعب من أطروحته سوى أنه يجلد الذات العربية، يريدون من المثقف النقدي أن يتحول إلى مروج «أفيون الشوفينية» بأننا نحن العرب أول من، وأول من، وأول من... إلخ من تكرار يطرب العوام وأنصاف المثقفين يستعيدون به أمجاد العرب بشكل «علموي تبجيلي».

من المفارقات أن الوصول السريع لهذه المعلومات عن المجد العلمي العربي يكون عبر كتب المستشرقين في التراث العربي ويتم تدويرها لأنصاف المثقفين بشكل تبجيلي تعبوي، بينما الواقع العلمي يقول: لا يوجد حضارة ولا أمة من الأمم يخلو تاريخها من ديالكتيك الحضارات السابقة عليها، على جميع المستويات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وحتى العرقية، فكفانا معالجة جروحنا النرجسية الغائرة تاريخيا في الوجدان العربي «مقتل ثلاثة خلفاء راشدين ـ من أصل أربعة ـ معركة الجمل، صفين، كربلاء، ضرب الكعبة بالمنجنيق، صلب ابن الزبير، سقوط دمشق في زمن أبي العباس السفاح، هدم الكعبة وقتل الحجاج على يد القرامطة، سقوط بغداد على يد هولاكو، احتلال العثمانيين لمعظم الوطن العربي لستة قرون، احتلال نابليون لمصر، هزيمة 67، سقوط بغداد على يد بوش، تغول الفرس والأتراك من جديد.. إلخ».

كل هذا الطريق الطويل من الجروح النرجسية نعالجها عبر مروجي «فيون الشوفينية» لينفثوا في لا وعينا تعويذة عمرو بن كلثوم في معلقته «الفخروية/‏‏الشوفينية» لنشعر بنشوة وغيبوبة لا نرى فيها مشاكل «الجهل البنيوي»، وما يستتبعه من البطالة والفقر والشتات والأمية في الوطن العربي مما جعل جيلاً من الشباب بل وحتى الأطفال يغرقون على شواطئ أوروبا في رحلة البحث عن «الذات المفقودة/‏‏المقهورة/‏‏المهدورة»، ولهذا فمن الطبيعي أن تجد حتى كتب «سارق الكتب» ومعها كتب الطبخ، تتفوق في مبيعاتها ومعرفة الناس بها على كتب كبار المفكرين النقديين، أما مروجو الشوفينية فقد ظنوا السياسة عبر «ارتجال العلم؟!» فلا بلح السياسة ولا عنب العلم.

تخدير «الذات المقهورة/‏‏المهدورة/‏‏المفقودة» يمارسه من يوزع «أفيون الشوفينية» على من يقف منتظرا «عودة غودو» العربي أو غودو الإسلامي، فلا غودو عاد، ولا متعب الهذال سيرجع لوادي العيون، وكاتب المقال مثلكم يشعر بالنوستالجيا/‏‏الحنين الماضوي لزمن مستحيل، يصر فيه المهووسون على ثنائية حادة، فإما استجلاب معايير سلفنا إلى زمننا فتظهر داعش، أو نحاسب سلفنا وفق معايير زمننا فيظهر الإلحاد، ثم يلومك أنصاف المثقفين لإصرارك على «القطيعة المعرفية» التي لا تعني «التخلص من التراث» بل تعني التخلص من «الطفولة الفكرية تجاه هذا التراث» تلك الطفولة المزمنة في «عبادة الآباء/‏‏السلف» والمؤثرة على ازدهار الدول وتطور الشعوب في القرن الواحد والعشرين، فلن يستقيم «نظام حديث على مجتمع قديم»، ومن يراهن على إحياء «اللويا جيرغا» بديلاً عن «مؤسسات المجتمع المدني»، فهو كمن يستغني بدراسة تفصيلية لأقوال الفقهاء في «حماية البيضة»، عن الدراسات الإستراتيجية في «الأمن السيبراني».

أخيرا.. أيها المثقف العربي البائس أفق وتخلص من «الهراء» نتيجة تعاطي «أفيون الشوفينية» سيقودك الإدمان دون أن تشعر إلى إنشاء مراكز ومعاهد وكليات من أجل «دراسة العبقرية العلمية في شعر إمرؤ القيس»، وسترى أنه سبق نيوتن بأكثر من ألف عام في الإشارة إلى «قانون الجاذبية» عندما قال: «كجلمود صخر حطه السيل من عل»، وسيركض بعض الأكاديميين من مختلف التخصصات ليكونوا أمناء هذه المراكز أو عمداء لهذه الكليات أو مشرفين على الأبحاث العلمية المحكمة الصادرة عنها؟! ليصبح «الهراء» معترفا به وفق المعايير الأكاديمية الصارمة؟!، هل عرفتم لماذا الجامعات العربية منذ بعثات محمد علي عام 1813 حتى الآن، لم تحدث فرق في مخرجاتها يستطيع منافسة كوريا الجنوبية المولودة في ظروف صعبة عام 1948.