يعد التطرف مــن أخطر الظواهر التي تهدد أمن الأفراد والمجتمعات، والواقع أن تطرف بعض الأفراد في آرائهم وأفكارهم واتجاهاتهم نحو بعض القضايا الدينية والسياسية والاجتماعية ظاهرة تحتل موقعها في المجتمعات الدولية من قديم الزمن، غير أنها أخذت بعدا جديدا في المجتمعات الحديثة عندما أنتج التطرف ظواهر: العنف، والإرهاب، والعدوان على الأفراد والممتلكات، وخلق فوضى عارمة فيما يخص أمن المجتمع وأمانه.

وتعد فئة الشــباب من أكثر الفئات عرضة لهذا المرض الاجتماعي، والخلل الفكري الخطير لكونهم يشــكلون مرحلة عمرية تتميز بالحيوية والنشاط والرغبة بالتجديد والتغيــير ما تجعلهم أكثر الفئــات الناقدة والانفعالية لكثــرة المتناقضات الحياتية التي يواجهونها، لا ســيما وأن المجتمع المعاصر تجتاحه تيارات مختلفة ومتباينة ومتعارضة، ويزخر بتحولات وتحديات سياســية واقتصادية واجتماعية كبيرة جعلت الإنسان يعاني أزمات متلاحقة تنتهي غالبا بالتطرف.

ويعد الإرهاب المنتج الأبرز من منتجات التطرف، ولقد امتحن العالم أحداثا إرهابية، هزت الضمير العالمي، وكل إنسان سوي يستشعر نعمة الأمن والاستقرار، ويدرك بشاعة التطرف والإرهاب، وتنامي العنف، فكثير من الأرواح أزهقت، وكثير من الممتلكات دمرت، نتيجة لعبث الإرهابيين، وجنوح المتطرفين.

ولا تسعف المعاجم القديمة كثيرا في إيجاد تعريف لغوي لكلمة التطرف، تواكب المعني الاصطلاحي للكلمة في هذا العصر، وأما المعاجم الحديثة نسبيا، فهي تدور حول معنى واحد يعنيه التطرف، وهو البعد عن منطقة الوسط.

والتطرف في جوهره ينطلق من نظرة تنزيهية للذات، ونظرة معاكسة سوداوية عدائية للآخر، وهذا التشكيل النفسي هو ما يحكم نظرة المتطرف للمواقف والمتغيرات المحيطة به، إن الجدية التي تقوم عليها هذه النظرة واعتقاد توفر الجواب باستمرار ليست منطقية، وإن الظن بأن جوابنا هو الجواب الصحيح بالضرورة، وجواب الآخر هو الجواب الخطأ بالضرورة، هو خلل فادح.

والتطرف في السعودية اليوم يواجه انحسارا غير مسبوق، لا تكاد تخطئه العين، ويمكن إدراك هذه الحقيقة والتي تعتبر أكبر شهادة على نجاح الجهود الأمنية في هذا السبيل من خلال قياس الفارق بين عامي 2003 -2021، بمراقبة تحولات خطابات التطرف والكراهية، وكذلك اختفاء أصوات كانت ملء السمع والبصر وظهور أصوات أخرى تملأ المشهد الآن تسامحا وتنويرا وحبا، ويعزز هذا الرأي حركة الإعلام والثقافة والفنون التي يسوقها المجتمع إلى آفاق واسعة.

والدولة- أعزها الله- ومن ورائها المجتمع المتعاون اليوم باتا يصنعان وعيا وفكرا يقودان بهما عملية تحديث ومواكبة حضارية لا تجري في أي بلد آخر عطفا على التسارع والتقدم المطرد لهذا التنوير المشع، ولا أنكر وجود بقايا وآثار للتطرف، كما لا أنكر أن الإرهاب ما زال خطرا قائما وكامنا قد يثور في أي وقت، لكن ليس من العدل أن نقول إنهما كما كانا سابقا في حالة تنام وتصاعد أو على الأقل في حالة ثبات، عطفا على حادثة هنا أو هناك، تغوص في حراك ثقافي متسامح، وهذا لا يعني: أن هذه اللغة النكدة السوداء غائبة بشكل تام- حتى وإن اختفت عن المشهد العام، ومورست في الأقبية والجيوب المندسة في تفاصيل المجتمع- غير أننا لو نظرنا للأمر بعد خمس سنوات من الآن في ظل الجهود السياسية والثقافية والاجتماعية التي تمارسها الحكومة، فإن هذه اللغة ستصبح من الماضي، ومما لا يلاحظه بعض المتكلمين في الشأن السعودي- وعلى الأخص الكارهون- أن تنامي الوعي الشعبي وتلاحم القيادة بالشعب والعكس، بات يقفز قفزات سريعة وواسعة ويحلق في آفاق بعيدة بسبب تطور المجتمع، وارتفاع منسوب المثقفين والأدباء والفنانين والمتعلمين، وبسبب الانفتاح الإعلامي، وتيسير الفتوى، ونزول السياسي عدة درجات لمجتمعه وقفزه على نظريات وأقانيم السياسة العربية المعروفة.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن مؤسسات الدولة المعنية هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن مواجهة الفكر المتطرف، والتي يجب أن تعمل على تعميق رسالة الدولة وترسيخها، وردم الفجوة الواضحة في وسائل الإعلام الرسمية، وتقوية البرامج الإعلامية وتجويدها، باختيار وجوه ثقافية وعلمية متمكنة، ومرموقة في البرامج الثقافية والدينية، وبناء معايير واضحة للبرامج الدينية، ومتابعة شبكات التواصل الاجتماعي من حيث المحتوى، وبناء حملات إعلانية وإعلامية متقنة ومحترفة لمواجهة الفكر المتطرف.

وتبرز ها هنا مشكلة يجب أن يتم حلها وتجاوزها سريعا، وهي أن قلة من المسؤولين عن مثل هذه الملفات لا يولي اهتماما كافيا بدور الثقافة والمثقفين في مواجهة التطرف، ومن ذلك تركيز المسؤول على دور المؤسسة الدينية والمشايخ في مواجهة التطرف، ونقض آراء وفتاوى وتفسيرات عرابي التطرف من وجهة نظر فقهية فقط، وهو الأمر الذي لم يؤثر كثيرا على جاذبية هذه الأفكار لدى بعض الشباب، أما المثقف والثقافة، فدورها محوري ومهم هنا، حيث إن التطرف في أساسه شكل ثقافي، قائم على أسس قد تكون دينية، وقد تكون سياسية أو اقتصادية...إلخ، إذن فالمثقف أقرب إلى تحليل وتفكيك الفكر المتطرف، ومن ثم نقضه، كما أن الاعتماد على دور المثقفين النقدي في مواجهة الفكر المتطرف، أثبت جدواه ونجاعته، حيث لعب بعض المثقفين البارزين دورا مميزا في نقد البنية الإيديولوجية للتطرف، كما ظهر جليا في أدبيات مثقفينا عبر سنوات من العمل المعرفي الجاد.

أخيرا، إن التصدي للفكر المتطرف لا يكون إلا بضخ المزيد من الحريات الناضجة المنضبطة بالقوانين والقيم، وتعاون جميع المؤسسات وفق المسؤولية المجتمعية، وشحذ قيم التفكير النقدي من جانب، والتصدي للتطرف الفكري وما يعتريه من أضرار من جانب آخر.