في قضية التوعية الفكرية، هناك جانبان لا يختلف عليهما أحد: الأول أنه قضية مهمة وقد تكون مفصلية في كثير من الشعوب وترتبط ارتباطا مباشرا بسلامة الدول وأمنها وتفوقها وتطورها العلمي والتنموي والاجتماعي. والآخر: أن التعليم العام والجامعي أحد أهم المجالات التي تعزز الوعي الفكري وترسم خطوطه العريضة في أذهان النشء منذ سن مبكرة، وتفتح لهم آفاقه الواسعة لتساهم بعد ذلك مجالات أخرى في تطويره وتعزيزه كالإعلام والفنون والمشاركات المجتمعية المتنوعة.

لم تكن التوعية الفكرية بالأمر الجديد في أروقة التعليم وتطوره لدينا، وما مر به من تحولات جذرية خلال بضع سنوات متتالية لافت للنظر وللتقييم والتساؤل. كانت أولى التحولات في عام 2014 حينما أنشئت في وزارة التعليم لجنة طارئة لحماية الأمن الوطني من خلال مراجعة ما يقدم للطلبة في المدرسة في المكاتب المدرسية، وربطهم بهويتهم الدينية والوطنية والثقافية وحمايتهم من التطرف والانحراف الفكري، وكان يولي الاهتمام بهذه المسائل عادة وحدات التوعية الإسلامية. بعد عام واحد من هذه اللجنة أُعلن عن انطلاق برنامج «فطن» الذي يحمل الأهداف نفسها، ويشدد عليها من خلال الكثير من اللجان والمبادرات والحملات التدريبية والتوعوية. تبعه بعام واحد أيضا إلغاء لمسمى التوعية الإسلامية واستبدالها بمسمى «التوعية الفكرية» تحت مظلة واحدة سميت «حصانة» يشرف عليها بشكل مباشر ويرأسها قادة وقائدات المدارس، وعضوية فرق تشكل داخل المدرسة وفق إستراتيجيات معينة، مع استمرار برنامج فطن في وقتها، الذي أُلغي تماما بعد ما يقارب العامين من تأسيسه لأسباب أوضحها وزير التعليم آنذاك، متعلقة «بملاحظات فكرية على بعض المدربين والمشرفين والقادة والمخططين من أعضاء البرنامج». ثم أصبحت مسألة الوعي الفكري مسؤولية مركز مختص به في الوزارة، تخللها شراكات مع جهات مهمة كالأمن العام للقيام بمهام هذا المركز، حتى جاء إعلان وزير التعليم الأسبوع الماضي عن إنشاء «وحدة للتوعية الفكرية في كل إدارة تعليم وجامعة».

حسب الإعلان المبدئي عن إنشاء هذه الوحدات وارتباطاها وهيكلتها الأولية والأهداف المعلنة، فإن قضايا نشر الوسطية والاعتدال والتعايش والوقاية من الفكر المتطرف وآثاره التي ما زال بعض منها عالقا في المجتمع، وتعزيز الولاء للدين والوطن وقيم المواطنة، جميعها تصب في محيط الوعي الفكري الذي قامت عليه البرامج والمراكز واللجان السابقة، والتي آلت لنهايات غير فاعلة ولا سعيدة.

بعيدا عن حرق المراحل واستباق الأحداث مع كثير من الفأل، فإن الأمل أن تكون هذه الوحدات التي ستستحدث أكثر نضجا عن التجارب السابقة، وأن تتحول بشكل فعلي لحراك مؤثر وعملي في مصلحة الوطن والنشء والشباب والمنتمين لهذه المؤسسات التعليمية الذين بوعيهم فكريا سيسهمون بشكل مباشر في الوعي الاجتماعي وما يرتبط به من منظومة متكاملة تعزز الأمن وترفع القيم الوطنية وتسهم في التنمية الاقتصادية وتنشر التصالح والتقبل المجتمعي والعالمي، وتثري العقول بالتفكير المنطقي والأبحاث والدراسات الواعية والرصينة التي تركز على نقض ما أسيء فهمه قديما، وبناء مستقبل أكثر إشراقا ينسجم مع التحولات الكبرى التي تشهدها المملكة في المجالات كافة، وفق خطط رصينة وإستراتيجيات قوية تتضمنها رؤية المملكة 2030.

التوعية الفكرية أعمق من أن تكون رصدا للمخالفات الفكرية التي تتسلل للعقول من أبواب خلفية ملتوية ومختلفة، أو التركيز على أبحاث ودراسات لا يقرأها إلا من أعدها أو أشرف عليها، ولا الكثير من الممارسات التي لا تصب في الواقع ولا تمس المعنى. وهنا تبرز الأسئلة عن ماهية المستهدفين الذين إن عرفت فئاتهم سيكون لهم أهدافهم وطرائق توعيتهم الخاصة. وما الأهداف الملحة في الوقت الحالي وما الذي ينبغي أن يقدم خلال سنوات؟ وكيف يمكن أن يكون الحراك التوعوي الفكري مرتبطا بالمناهج الدراسية والتعليم المباشر الذي هو حصيلة فعلية للتفكير المنطقي والناقد والتحليلي القادر على تقييم المواقف وحل المشكلات وأخذ القرارات، بناء على توجهات وقيم ومنافع شخصية وعامة، مناهج تعلم النشء من سن مبكرة على هذه المهارات، وأن يكون له المقدرة على القبول والرفض والتعايش. والأهم من سيقوم بهذا الشأن كله، ووفق أي معايير سيتم الاختيار والتقييم والتطوير، وكيف يمكن تلافي الثغرات السابقة في البرامج المشابهة.

كل هذا وأكثر، أسئلة مشروعة لكل مهتم بقضايا التوعية الفكرية والأمن الفكري، ولكل مهتم بالتربية والتعليم والسلوك الاجتماعي، وحتى لأولياء الأمور الذي يهمهم أن يكون أبناؤهم في مجتمعات تعليمية لائقة فكريا. مشاركة هذه التفاصيل عمليا مسؤولية مرتقبة من التعليم كحرصها المشكور على هذا الجانب المهم، وعلى إشراك المجتمع في العمل نحو تعزيز الوعي الفكري لكل شرائحه.