لتناول القهوة والشاي مراسيم وطقوس مصاحبة عند كل شعب، تمثل هذه الطقوس والمراسيم شكلا من أشكال الثقافة، فتناول المأكولات والمشروبات عند شعوب العالم دائما ما ترتبط بعادات وتقاليد يصبح التنازل عنها أو تهميشها من المحرمات بعد أن ترتبط بثقافتهم وموروثاتهم، وتكون جزءا من نمط حياتهم اليومي، ويكون الحفاظ على أدق تفاصيل هذه التقاليد أقرب لممارسة الشعائر الدينية.

للقهوة العربية في المجتمع العربي مكانة رفيعة، لها مراسيمها الخاصة التي يجب مراعاة ترتيبها، وكمية القهوة في الفنجان التي يجب ألا تتجاوز ربع أو نصف حجم الفنجان، والاهتمام بهذه التفاصيل يمثل تقليدا عربيا يظهر الرغبة في رعاية الضيوف من صميم القلب. فالقهوة العربية وما يصاحبها من طقوس وترتيبات تمثل تقليدا لا يتنازل عنه أفراد المجتمع بكل طوائفه وطبقاته.

ما مصير القهوة العربية وطقوسها العزيزة في عصر العولمة الحديث، وهل العولمة قادرة على أن تكتسح عاداتنا وتقاليدنا المرتبطة بتناول القهوة ويضعف من ولائنا لشعائرها الخالدة؟ ركزت الظاهرة العولمية على تنميط الإنسان من كونه كائنا اقتصاديا يجب أن يتعولم، بمعنى أن هناك قيما ثقافية يحاول نظام العولمة فرضها على شعوب العالم كافة، وكي تحقق العولمة أهدافها السياسية والاقتصادية فيجب عليها أن تحقق التوفيقية الثقافية بين شعوب العالم، وإعادة تشكيل الشخصية الإنسانية حسب المقاسات العالمية.

ترفع العولمة شعارات من قبيل التسامح بين الثقافات والتنوع الثقافي ولكنها في الواقع أحادية الثقافة، فمصطلحات كالعولمة والحداثة وما بعد الحداثة أصبحت كلها تعني الأمركة، ومحاولة نشر القيم الأمريكية ونمط العيش (Life Style) الأمريكي وخلق الجاذبية لهذه القيم لدى الناس، ولعل عاداتنا في شرب القهوة أو تناول وجباتنا اليومية، خير شاهد على أن المجتمع بالفعل أخذ يتأثر بغارات العولمة الثقافية. فثقافة «الكوفي شوب» وما تقدمه من أسماء مثل الكابتشينو والكافي لاتيه والآيس موكا والاسبريسو والأمريكانو والتشيز كيك والدونات والهوت شوكليت، كلها تنتمي في الحقيقة للثقافة الأمريكية وتعبر عن تقاليدها في تناول القهوة، ونحن إذ نتناول الكافي لاتيه مع الكاراميل، ونحلي بالتشيز كيك، فإننا في الحقيقة نتناول القهوة على الطريقة الأمريكية، ونحاول أن نعكس صورة عن أنفسنا بأننا منفتحين ومواكبين للعصر.

إن الشركات متعددة الجنسيات -ومنها شركات تقديم القهوة- كي توسع استثماراتها حول العالم فإنها تضع في الحسبان حاجز الثقافة الذي سيقف سدا منيعا أمام تدفق رؤوس الأموال، فهي مضطرة لإزالة الحدود وطي المسافات عبر وسائل إعلام عابرة للقارات وقادرة على اختراق الثقافات وصياغة ثقافة كونية تسمح بتدفق المعلومات والآراء والمنتجات والخدمات بحرية كاملة من بلد إلى آخر، بغير حدود ولا قيود.

وسواء اعتبرناها ظاهرة حضارية وواقعية أو شرا لا بد منه، فإن العولمة الثقافية تسعى حثيثا لتحل محل الثقافات المحلية وتذويبها داخل بوتقتها، فالعولمة في واقع الأمر لا تؤمن بالتنوع الثقافي لأنه يتعارض مع أهدافها ويكبلها داخل الخصوصيات الثقافية للشعوب، لذلك تسعى العولمة لانتهاك أي خصوصية ثقافية وخلق عالم بلا حدود ثقافية أي تحويل العالم بما فيه من تنوع واختلاف إلى نمط ثقافي واحد، وتنميط الإنسان داخل بُعد دلالي واحد وتهميش بقية الأبعاد فيه حتى يصبح مجرد كائن استهلاكي، يعمل ويستهلك بغض النظر عن المكونات الأخرى لكينونته الروحية.

لم تخلق العولمة مناخا من التنوع الثقافي والتلاقي السلمي بين الحضارات والتواصل الإنساني والفكري الرفيعين، بل أصبحت الثقافة في ظل العولمة وسيطا غير محايد لتحقيق الأهداف الاقتصادية وتحفيز الجانب الاستهلاكي عند الشعوب في ضوء المركزية الغربية المنحازة للقيم الأمريكية، بعد أن دخلت في حالة اشتباك مع ثقافات الشعوب وتفكيك لهوياتها لخلق ثقافة كونية موحدة، وإشاعة ثقافة الاستهلاك، وهذه الأهداف يصعب تحقيقها دون تعرض الأجيال المعاصرة لعملية تنميط وتوحيد لأذواقها وآرائها، وهذا ما جعل كثيرا من الناس يتوجسون من نتائج العولمة السلبية التي تعني استفراد الولايات المتحدة بالشأن الثقافي، بقدر استفرادها بالشأن الاقتصادي والمالي.