من الممتع التنقل بين صفحات تجارب من سبقونا في مختلف المجالات والعلوم، لإثراء المعرفة الذاتية أولا، ثم للتعلم من خبراتهم وتجاربهم، ولكن دأب الكثير من الأشخاص، في الآونة الأخيرة، الغوص والتعمق لحد التقمص في السير الذاتية، سواء كانت مكتوبة عبر مؤلفات أو حتى من خلال أعمال وثائقية مرئية، تٌقدم عن تلك الشخصيات وتاريخهم وأعمالهم. ولا شك أن ذلك يدخل في إطار المنطق لدى البعض، وكأن يكون هواية لدى العديد من الأشخاص، ولكن الحديث هنا عن تبعات وإفرازات تلك القراءات.

أول تلك الانعكاسات أن الكثير من المتابعين لتلك السير لا يتعاطون معها من أجل الفائدة أو الاستمتاع أو حتى الإطلاع، وإنما من منطلق تقمص تلك الشخصية المتحدث عنها، وبوصف أدق «محاولة استنساخ قصة النجاح تلك» دون مراعاة أي عوامل أو ظروف مكانية وزمانية مرت بها تلك الشخصية، فالظروف غير المتشابهة والمعطيات المختلفة والأزمنة المتغيرة تجعل من تكرار التجربة أمرا يدخل في حيز المستحيل.

ومن ثم لو سلمنا بأن الظروف متشابهة بين صاحب السيرة وقارئها، فإن ذلك لا يدعو إلى الإيجابية في الاستفادة من السيرة، لأنه لو كرر المعادلة نفسها، فإنه سينتج لنا نسخة مكررة من التجربة نفسها والشخصية الموجودة!، وبالتالي فإن القيمة المضافة ستكون معدومة.

الأصعب في هذا كله أن هناك أشخاصا يحاولون اقتباس أو استنساخ تلك النماذج، حتى إن اختلف المجال المهني، مما يجعل العملية لا تستقيم، فلكل مجال خطواته ومشاربه وأنماط عمله المختلفة، فإذا كان المجالان المتشابهان يوجد بينهما اختلاف، فلكم أن تتخيلوا حجم الدائرة المشتركة بين مجالين متباعدين، لذا فمن غير المنطق البحث عن سير خارج المجال، ومحاولة إسقاطها وتنفيذها في المجال المتعلق بالقارئ.

من الزوايا التي قد تخفى على الكثير من متقمصي شخصيات السير أن تلك الروايات قد تكون متجزئة، أو قد لا تظهر التفاصيل كافة، فمن الطبيعي أن تقدم بعض السير أصحابها بطريقة أفلاطونية وغاية في المثالية، وبالتالي فإن ترجمة تلك المواقف على أرض الواقع تعد أمرا غير منطقي.

ومن الارتدادات العكسية لتلك السير من الناحية النفسية أنها وسيلة لتغييب هوية قارئها، فهو سيبحث عن تحقيق شخص آخر لا تحقيق ذاته، لذا فقد يقوم بممارسات، سواء اجتماعية أو عملية، غير مقتنع بها، أو لا تناسب محيطه فقط من أجل أن من قرأ عنه قام بذلك، كأن يبدأ بممارسة أسلوب إدارة معين لا يتناسب مع إدارته في العمل، أو يستخدم أدوات وملصقات على مكتبه وأقلام رصاص بدلا من حبر وغيرها من الممارسات، وهذه لها ترسبات نفسية صعبة، لأنه قد يتوهم أنه شخصية ناجحة ومؤثرة لمجرد أنه قام بخطوات وممارسات سطحية ومكررة لشخصية نجحت وقرأ عنها، وهذه قد تخلق فجوة بينه وبين مجتمعه، أو قد تعرضه هذه الممارسات لتنمر وسخرية. إعجابنا بشخصيات مؤثرة، دينيا وتاريخيا وسياسيا ومهنيا، لا يعني أننا سنصبح مثلهم، فقراءتنا سيرهم للفائدة لا للتقليد، والاستفادة من تجاربهم تطورنا لا تجعلنا نسخة منهم، فإعجابنا بالأمير سعود الفيصل وغازي القصيبي - رحمهما الله - وعادل الجبير وغيرهم من القياديين، أصحاب الكاريزما والمؤثرين في مجالهم، لا يعني أننا سنكون مثلهم، حتى وإن تظاهرنا شكليا وسطحيا بأننا مثلهم.

يقول الأديب الألماني ريتشارد فاجنر: «كن أنت بعفويتك، فالتصنع يفقدك أشياء جميلة، أولها نفسك».