تتوارد الأسئلة الكثيرة وتحيط بنا أحاديث النفس والطموح، ونحاول أن نجد لها الإجابات التي تساعدنا على فكّ رموز الكثير من سلوكيات الحياة وفهمها، وهنالك الكثير من المفاهيم التي ما زالت تحيّر الكثيرين وتساعد المطورين في فهم سلوكيات الأفراد خاصةً في مجالات الإدارة والقيادة وتطوير الذات. ولكن أكثر مفهوم يشدّ في الفترة الحالية بالرغم من قدمه حتى لو كان يُعرف بمفاهيم أخرى أو مسميات أخرى هو إدارة الصعود والنزول (الهبوط).

لن ندخل في التعاريف اللغوية وتعريف المصطلحات ومعانيها في معاجم اللغة العربية، وقواميس الصِّحاح، وإنما سنخوص في مفهوم سلوك الصعود والنزول، وربطهما بسلوكيات الطموح والأحلام والنجاحات وتحقيقها. فجميع الأفراد يطمحون دائمًا للوصول إلى القمّة، والصعود إلى القمة سيكون أداةً للوصول لها، فلكي تصل يجب أن تصعد، ولكن كل هذا يحتاج إلى تخطيط سليم وأهداف تتطلب دراسةً واعيةً لتحقيق الهدف الأسمى وهو الوصول للقمة، وهذه القمة قد تتمثل في تحقيق مكسب مالي ضخم، أو ووظيفة مرموقة، أو منصبٍ ذو مكانة، أو بناء منزل العمر، أو شراء سيارة، وكلها أهداف دنيويّة من حق الفرد التفكير فيها.

ولكن يرتبط بمفهوم الوصول إلى القمّة عدد من الأمور المهمّة ومنها، أن كل من يصل إلى القمّة سينتهي، وأن الوصول إلى القمّة هو بداية النهاية. وأيضًا مفهوم آخر وهو، الصعود للقمة صعب ولكن النزول منها سهل جدًا. كل هذا يدلّ على أن الوصول إلى القمة يحتاج إلى إدارة ودرايةٍ وإرادةٍ وحنكة في التصرف لتحقيق المكسب الحقيقي وهو الوصول إلى الغاية بوسائل سليمة ونقيّة ونظيفة ومشروعة. إذًا مفهوم إدارة الصعود كأي مفهوم إداري يتطلب عددًا من معايير الخير، ووسائل وعوامل مساعدة لذلك. فالذكي الفطن هو من استمتع خلال فترة صعوده إلى القمة، والخاسر من استعجل في الصعود إلى القمة ووصل إليها بسرعةٍ.

قد تُجبر الظروف عددًا من الأشخاص على الظهور المفاجئ في الساحة واعتلاء مراكز القمّة بسرعةٍ ودون طلبٍ منها، هنا عليه أن يتحوّل بسرعة إلى مفهوم إدارة الاستمرارية والاستدامة، ثم يفكر في إدارة النزول، وهذا يتطلب منه الإعداد الجيّد للبقاء على مستوى القمة لأكبر فترة ممكنة لكي تساعده على النزول بطريقة احترافية وبأقل الخسائر النفسيّة والمعنويّة والماديّة إن لم يتم تحقيق خسائر صفريّة في هذا الجانب.

إذًا فالارتباط القائم بين الصعود والهبوط يحتاج إلى إدارة وتخطيط، ويحتاج إلى فلترةٍ قويّة لتطويع الظروف وإجبارها على تخفيف رياحها الهوجاء التي تدفع بنا نحو القمّة حتى نكون متأكدين من مناسبة الوقت لصعود هذه القمة، وهذا يعني مفهوم الرُشد والوعي والحكمة والتأني. وكلها لا يولد بها الإنسان، وإنما هي مهارات مكتسبة ويتم تطويرها من خلال الوعي والعلم والثقافة والممارسة والتجربة، والارتحال في قصص مشابهة لكسب ما يكفي لتحقيق هذا الهدف بطريقةٍ صحيحة وناجحة.

إن البقاء في القمة يرتبط بمفهوم المدير، ومفهوم القائد، وكلاهما يحملان صراعًا مفاهيميًّا أزليًّا، وبينهما اختلافات كما هو الحال في الارتباط بينهما والتشابه. فالمدير هو من يتميز بقدرات تساعد على إدارة العمليات وتحقيق الأهداف، بينما القائد هو الشخص الذي يتميز بتحقيق مستويات الرضا والقبول بما يضمن له الاستمرارية، ويطلق عليه في أحيانٍ كثيرة القائد العادل. وهنا نجد أن هذا القائد هو الشخص القادر على الاستمرار في مستويات القمة والصعود دون الخوف من النزول أو الهبوط المفاجئ. حتى إن نزل عن القمة فهو ينزل بكرامةٍ ورُقيّ يكفلان الاحترام الكامل له.

لا يمكن أن نُغفِلَ القوى الداخلية التي تحرك الأشخاص وتجعلهم ينازعون على القمة وعلى السلطة (سلطة المال، أو النفوذ) وهذه القوى الداخلية تتواجد في النفس البشريّة، وتعرف لدى علماء الدين وعلماء النفس ومتخصصي علم الجريمة بالأنا الطمّاعة أو الأنانية (أنا الذات)، التي تسعى لتحقيق مصالحها على حساب مصالح الآخرين ودون النظر لأي أمور نفسيّة أو إنسانية قد تُحبط من عملية صعودهم الأنانية للقمة.

هذا كان حديث النفس الذي يتحدث به كل شخص مع نفسه، ويخايلها عن رغباتٍ أنانية قد يكبح جماحها في فترات كثيرةٍ بمساعدة العقل والدين والسلوك والانضباطية الخيّرة. كما أنه حديث الخير ضد أحاديث الطمع التي تسيطر على أناسٍ كثيرين منذ خلق البشرية الأول حتى وقتنا الحالي، وسيتعداه إلى أن يشاء الله ما دامت الحياة قائمة، وما دام هنالك العديد من القمم المرغوب في صعودها ومكفول حقّ الوصول لها ومشروعٌ (مُتاح).