«التكريم بعد الوفاة» ظاهرة تفشت في مجتمعاتنا التي تنتظر رحيل الإيقونات والرموز في معظم المجالات حتى تنتبه إلى أنهم يستحقون التكريم، وكأن الموت شرط من شروط الاحتفاء بتلك الإيقونات، بالرغم من أن مجتمعنا لا يعتقدون كما يعتقد المكسيكيون أن «الموتى يهبطون بأرواحهم إلى الأرض، وينضمون للمحتفلين بهم، لتكريمهم، وذلك في تقليد يعملونه به في الأيام الأولى من نوفمبر من كل عام.

واللافت أن ظاهرة التكريم بعد الوفاة التي انتقدها كثير من الأدباء والشعراء والفنانين، لم تتحجم بعد كل تلك الانتقادات، بل أوغلت في غرابتها وصارت منصة «زووم» مسرحًا لها، حيث بادرت عدد من الجهات لتكريم الرموز عبرها، وهو ما يخشى كثيرون أن يتحول من مجرد ظاهرة وقتية محكومة بظروف التباعد الاجتماعي إلى ظاهرة مستدامة، تكرس المقولة العبقرية للأديب توفيق الحكيم «الأمة الحية هي التي يحيا فيها أمواتها، أما الميتة فهي التي يموت فيها أحياؤها».

وكان الشاعر الفلسطيني الأشهر محمود درويش الذي وجد تكريمًا قبل وفاته بأشهر قليلة عبر إطلاق اسمه على أحد ميادين رام الله «ليس من المألوف أن يكرّم الأحياء، فالموتى لا يحضرون حفل تأبينهم، وما استمعت إليه اليوم هو أفضل تأبين أود أن أسمعه».

وأوصى الفنان محمد صبحي أبناءه بعدم تسلم أي جائزة أو تكريم يقدم له بعد وفاته، مؤكدا أنه يرفض أن تتذكره جهات بعينها بعد موته وهي التي غفلت عنه خلال حياته، وقال «من الجميل أن نكرم رموزنا الذين رحلوا عن حياتنا، ولكن علينا أيضًا أن نساند ونقف بجوار كل من يبدع على قيد الحياة».

بدوره، قال المفكر جمال الدين الأفغاني «الأديب في الشرق يموت حيا، ويحيا ميتا، فنحن نجهل قيمة المبدع حينما يكون بيننا، ولا نشعر بقيمته الحقيقية إلا بعد رحيله».

كما رأى الكاتب والسياسي جورج برنارد شو أن تكريم الرموز بعد رحيلهم «يشبه أن ترمي طوق النجاة لرجل غارق، لكن بعد وصوله إلى الشاطئ».

سباق تكريمي

يؤكد كثير من المهتمين، أن المجتمع العربي اعتاد أن يحتفي بالرموز، والشخصيات الرائدة بعد مماتها، وتجاهل ما قدمته أثناء حياتها، حتى صار الأمر نوعًا من التقاليد العربية، حيث لا تدرك قيمة الرمز وأهميته إلا بعد رحيله، مشيرين إلى أن عددًا من الجهات، والهيئات، والمؤسسات الأدبية والثقافية وغيرها، تدخل في سباق تكريمي، وتشارك في إقامة الاحتفالات وكأن لسان حالها يقول «لتمت كي نكرمك»، وذلك عبر أمسيات تكريم تحولت إلى تأبين في الوقت الضائع.

ظاهرة جديدة

في الآونة الأخيرة، انتشرت ظاهرة تكريم الرواد في المجتمع العربي، بطريقة جديدة تسيّدتها عدد من الجهات والمؤسسات سواء كانت أدبية أو ثقافية أو فنية وغيرها، وتمثلت بالاحتفاء بالراحلين عبر منصة زووم الإلكترونية.

وتبرز تكريمات سابقة لرواد متوفين، عربيًا أمثال تكريم الأديب الراحل السوري حنا مينة في مهرجان الإسكندرية السينمائي 2018، وتكريم الأديب الراحل الليبي الصادق النيهوم من قبل وزارة الثقافة والمجتمع المدني بليبيا 2009، رغم وفاته عام 94، وتكريم الأديب الراحل محمد دكروب 2017 من قبل المجلس الثقافي بلبنان، وتكريم العالم والأديب الراحل صلاح ترك بقصر ثقافة المحلة الكبرى قبل 10 سنوات في مصر، وتكريم الأديب الإماراتي الراحل حبيب الصايغ 2021 في الفجيرة، وتكريم الراحل ربيع مفتاح بمصر عام 2019، وتكريم الأديب الجزائري الراحل مرزاق بقطاش 2021 بالجزائر.

نماذج محلية

على صعيد المجتمع المحلي السعودي، يبرز عدد من الراحلين المكرمين بعد مماتهم، والذين تم تسليط الضوء على جهودهم وإنجازاتهم بعد رحيلهم، ولم يأخذوا حقهم من الاحتفاء وهم أحياء يرزقون، ويتصدرهم الأديب الراحل طاهر زمخشري بجائزة الدولة التقديرية 1405، والأديب الراحل عبدالله الحقيل 2020 في معرض القاهرة الدولي، والأديب الراحل عبدالله بن خميس في ندوة «خميسية حمد الجاسر 1432، وتكريم الأديب الراحل أحمد عبدالغفور عطار بفندق مكة جراند، بحضور وزير الثقافة والإعلام آنذاك الدكتور عبدالعزيز خوجة، وتكريم الأديب والوزير الراحل الدكتور محمد عبده يماني بنادي جدة الأدبي 2011.

وعبر منصة زووم اشتمل التكريم على كثير من الشخصيات التي كرمها نادي جازان الأدبي حيث كرم الأديب والشاعر الراحل أحمد إبراهيم الحربي، والفنان الراحل محمد دليح 2021، فيما كرّم أدبي مكة الأديب الراحل تميم الحكيم 2021، وكرم نادي أبها لارائد الاجتماعي والأديب الأكاديمي الدكتور علي بن عيسى الشعبي 2021.

نموذج نوبل

عمدت جائزة نوبل وهي الأشهر عالميًا إلى تسليم الفائزين بها في العام الماضي بطريقة غير معتادة راعت أن يكون حفل تسليم الجوائز عن بعد، وأن يراعي كذلك أهمية إحساس المحتفى بهم بمعنى الجائزة.

وتسلم الفائزون جوائزهم في منازلهم وهم في كامل أناقتهم، بينما كانت فرقة موسيقية يجلس أعضاؤها متباعدين تعزف فواصل من الموسيقى الكلاسيكية في قاعة شبه خالية على بعد آلاف الكيلومترات في ستوكهولم السويدية مقر الجائزة.

وبث التلفزيون السويدي حفل تسليم الجوائز من قاعة بمجلس مدينة ستوكهولم كانت تكتظ عادة بالحضور تكريماً للفائزين، فتسلم مايكل هوتون الذي تقاسم جائزة نوبل في الطب مع هارفي ألتر وتشارلز رايس لإنجازهم في علاج فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي) جائزته في حديقته بكاليفورنيا.

أما لويز جلوك الفائزة بجائزة نوبل في الأدب فتسلمت جائزتها في فناء منزلها في بوسطن بينما كانت ترتدي معطفًا من جلد الماعز.

ووضع بعض الفائزين كمامات لدى تسلمهم الميداليات والشهادات التقديرية إلى جانب الجائزة المالية التي تبلغ قيمتها 10 ملايين كورونا سويدية (1.18 مليون دولار أمريكي) لكل فائز، والتي أوصى بمنحها ألفريد نوبل رجل الأعمال السويدي الذي اخترع الديناميت.

ولعدم إقامة الحفل هذا العام، وُجهت الدعوة للفائزين بالجائزة لحضور حفل العام المقبل.

الطريقة المثلى

شدد الجبيلي على أن الطريقة المثلى للاحتفاء بالشخصيات التي تستحق الاحتفاء بها، سواء كان تكريمها بشكل فردي، أو مع مجموعة من الرواد والمتميزين، تكون عبر المؤسسات العلمية والأكاديمية مثل الجامعات أو الأندية الأدبية، والجهات الإعلامية أو عن طريق مراجعهم عبر المؤسسات الاجتماعية في كل وزارة أو مرفق أو منطقة، على أن يكون التكريم برعاية وحضور أمراء المناطق التي يقام فيها الحفل أو الاحتفاء، بحيث تبرز عبر الاحتفاء مبررات التكريم ودوافعه، وما قدمه المحتفى به من أعمال دفعت المجتمع للاحتفاء به أمام الرأي العام، وبحضور المحتفى به وأبناءه وأسرته وجماعته ورجالات المجتمع، وذلك برمز تقديري، ووشاح يعبر عما حققه هذا المحتفى به من إنجازات، وما قام به من جهود مميزة ورائعة استحق عليها هذا الاحتفاء.

نعي وتأبين

أكد الجبيلي، أنه «إذا لم يتمكن المجتمع من الاحتفاء بالشخصية المحتفى بها وهي على قيد الحياة، فلا أقل من أن يتم الاحتفاء بها بعد رحيلها في العلن، بنفس الطريقة التي سبق أن ذكرتها كما لو كان حيا، ولا بأس حتى من تأجيل التكريم إلى ما بعد زوال الجائحة، لأن ذلك أقل ما يليق بمن يستحقون التكريم، وأفضل أن تتحول أنديتنا الأدبية، وجامعاتنا، ومؤسساتنا الإعلامية إلى إدارات للنعي والتأبين، واستنفاذ بنود التكريم في ليالي تأبين باهتة تأتي عن بعد لمجموعة متحدثين، أو متحاورين، لا يدري عنهم إلا قلة أشخاص، ولا يُسمع لهم صوت ولا نحنحة».

تقليل التحفيز

أوضح استشاري الطب النفسي بمركز النخيل الطبي بجدة، الدكتور علي زايري لـ«الوطن»، أن «التكريم حدث جيد ولائق، ويعد نوعًا من الوفاء للمبدعين والمخلصين، ويترك تأثيرًا إيجابيًا على أقارب وذوي المتوفى»، مشيرًا إلى أنه «من الأفضل للمجتمعات المتطورة والمتحضرة مكافأة الشخص على إنجازاته أثناء حياته، وفي وقت مبكر، والتقدير للعمل الجميل في وقته المناسب»، لافتًا إلى أن الاقتصار على التكريم بعد الوفاة غير جيد، لأنه يقلل من عامل التحفيز للآخرين، فالإنسان الذي يشعر أن المجتمع الذي لا يقدر نشاطه أو اجتهاده تخلق لديه حالة من عدم الاهتمام، وقلة الدافعية.

وأضاف «إذا وجد مجتمع لا يكرم أبناءه ولا يعرفهم إلا بعد انتهاء حياتهم، فهذا له تأثير في قلة الدافعية على الإنجاز والابتكار والاجتهاد، والله سبحانه أول من شرع نظام المكافأة، فإذا كانت المكافأة نظاما ربانيا ودينيا، فهي كذلك مبدأ اجتماعي قوي يساعد على الابتكار ونجاح المجتمعات، فبعض المجتمعات التي تعيش بجوارنا تعتمد نظام المكافأة، والتي تعد بالنسبة لها من المحفزات الأساسية، وهو ما توفره مثلا جائزة نوبل، والجوائز العالمية التي يتسابق عليها كثير من العلماء من خلال أبحاثهم ودراساتهم التي غيّرت العالم، وكانت سببا في تقدم البشرية في كثير من المجالات.

إعادة تنظيم

أكد الزايري، أن «الإنتاجية والابتكار والإبداع تقل في العالم العربي، ليس لقلة الذكاء والعقول، ولكن ربما لأن النظام المجتمعي القائم ينقصه عامل التحفيز والتشجيع المعنوي والحسي». مشيرًا إلى أنه ينصح بجعل المكافأة والتقدير جزءًا لا يتجزأ من أي مشروع مطروح، أو أي دراسة، أو مناطق فيها بحث علمي، ودراسة، وإنجاز، لأن طبيعة النفس البشرية تحب المدح والثناء والتقدير، ويجب أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار وتقديرها، ولاسيما في المجتمع الذي ربما غابت عنه، أو تأخر عن ركبها.

وأضاف «لا بد أن تتحرك في مجتمعنا أو المجتمعات الأخرى جمعيات رائدة تبادر لتكريم من يستحقون، وعلينا أن نتذكر أن أجدادنا العرب والمسلمون كانوا نوابغ في العلوم والرياضيات، والفلك، والفيزياء، والطب، فإذا كان أجدادنا وأسلافنا هم من أضاء الشمعة الأولى في العلم، فلماذا لا يواصل الأحفاد إضاءة الشموع، وسيتحقق لهم ذلك عبر التحفيز والتقدير والتشجيع، بالرغم من أنه لا يكلف شيئًا، وكل ما يحتاجه هو إعادة هيكلة وتنظيم المؤسسات الحكومية والخاصة، لإدراج المكافأة كجزء لا يتجزأ لأي عمل يعود بالخير والفائدة على المجتمع».

قصور مجتمعي

تحدث الكاتب الإعلامي علي الجبيلي، الذي تبوأ عدداً من الإدارات في جهات حكومية وإعلامية عدة، وقدم عددا من الدراسات والمقترحات والمقالات حول الاحتفاء بالشخصيات الرسمية والاجتماعية والإنتاجية المتميزة قبل أو بعد تقاعدهم، وقال «عطفا على قصور مجتمعاتنا في الاحتفاء بالشخصيات الإبداعية والعملية والمنتجة بشكل متميز أثناء حياتها العملية أو بعد تقاعدها على الأقل، فإننا نشهد في السنوات الأخيرة موضة جديدة للاحتفاء برجالات الوطن المتميزين، وذلك على طريقة هذه الجهات، ولكن متى وكيف؟.. والإجابة أن ذلك يتم بعد وفاة هؤلاء الرجال مع الأسف الشديد، وكأننا لم نعرف جهودهم أو نقدرها إلا بعد الرحيل».

وأضاف «الأكثر أسفًا وجحودًا أن تستغل ظروف جائحة كورونا واحترازاتها لتكريم هؤلاء إلكترونيا، وعن بعد، وعبر منصات إلكترونية تعج بالتعاسة والإحباط، وكل مشارك في مناسبة التكريم يقدم ورقته الباهتة عن الفقيد، كأنها واجب ثقيل ثم يمضي بعدما برأ نفسه بمجرد المشاركة في هذه الطريقة.. والسؤال الذي يطرح في هذه الحالة:

هل هذا التأبين الحزين الباهت للفقيد الراحل يفيه حقه ومكانته؟

وهل هذه طريقة تقدير ما قدمه من عطاء وإخلاص وتفان لخدمة مجتمعه ووطنه، وإن لم يسع هو بنفسه لهذا التكريم؟».

تقليد التكريم عربيًا

ـ في الغالب يطال الأشخاص بعد وفاتهم

ـ بدأ في الفترة الأخيرة يمارس عبر منصة زووم

ـ يتم التكريم بتقديم أوراق باهتة عن المكرم

ـ تقدم الأوراق كأنهم واجب ثقيل في جمع قليل أو بالحضور الإلكتروني المحدود

أبرز سلبيات تأخير التكريم حتى بعد وفاة المكرم

ــ يقلل الدافعية لدى الأحياء.

ـ ينسف أهمية التحفيز للآخرين.

ـ يخلق حالة من الشعور بالإحباط.

ـ يولد إحساسا بعدم الاهتمام.

ـ يقلص فرص ودوافع الإنجاز والابتكار.