هناك من يناقش القضايا بميوعة فكرية وعدم انضباط مفاهيمي في سبيل هوايتهم المفضلة باستهواء الجماهير إلى حالة شعبوية تعطي وهم المعرفة وليست بمعرفة، وأكبر مثال على ذلك اتهام الصف الأول من المفكرين العرب بأنهم يهوون جلد الذات، وأن كل نتاجهم الفكري (النقدي) ليس إلا جلد ذات لا يقبله عاقل.... الخ من استهواءات شعبوية تخلط المفاهيم فتجعل العروبة عرقا ومرة أخرى ثقافة ومرة ثالثة حضارة. وكذلك يفعلون مع الإسلام فمرة تجدهم يطرحونه كدين، ومرة أخرى يعاملونه كثقافة، ومرة ثالثة يعاملونه كحضارة، وهذا القفز على الحبال في أطروحاتهم الهدف الوحيد منه المراوغة والسفسطة لإثبات أن المفكر فلان أو الكاتب علان يحب جلد الذات.

بإمكاننا أن نتفهم زوايا النظر المختلفة ونتلمس العذر إذا كان مثلاً استعراض التراث العربي، المكتوب والعيني والمنقول لهدف اقتصادي فيتم تسويقه لمستهلكين وفق مفاهيم تسويقية صرفة تدخل فيها الدعاية والإعلان بالمفهوم التجاري، ولا ضير في ذلك أبداً، بل هو مجال له رجاله القادرون على ذلك كنوع من التسويق السياحي بأنواعه (متاحف، مطاعم، منتجعات، آثار... الخ).

بإمكاننا استعراض التراث العربي الممتد لآلاف السنين بأنواعه بصفته موضوع للدراسة في علم التاريخ، أو علم الاجتماع، أو حتى تاريخ الأديان واللغات، كما يفعل الدكتور فلاح شبيب العجمي في امتداد الديانة الإبراهيمية من الهند حتى جزيرة العرب.

بإمكاننا أن نستشهد بكل التراث العربي في مجال محدد وفق منهجيات محددة ذات أهداف تابعة لنفس هذه المنهجيات، وعلينا تخيل السفسطة بمعناها السلبي الذي تحصل عند أحد متعاطي (أفيون الشوفينية)، إذ يحاول إلزامك بأقوال ابن تيمية، وفي الوقت نفسه يستشهد بابن سيناء كعالم سبق الغرب في كذا وكذا، رغم أن الأول يشير إلى كفر الثاني، لتكتشف أن مدمن (أفيون الشوفينية) يعيش حياته العقلية رغم اطلاعه الواسع على التراث وفق أبجديات ما قبل النهضة الأوروبية وانعكاساتها على العالم (ما قبل العقل الحديث)، الشيء الوحيد الذي يربطه بعالمنا هو قدرته على تمييع المفاهيم كحالة نفسية أكثر منها حالة معرفية، فهو في النهار مع ابن تيمية وابن القيم بكامل حمولتهما التراثية، وفي الليل مع أبي نواس وعمر الخيام بكامل حمولتهما التراثية أيضاً، فميوعة المفاهيم لديه تهدف إلى التكيف النفسي أولاً ثم الحجاجي هرباً من إلزامات المفكرين التي تضطره لإعادة السؤال الوجودي تجاه التراث، فما يقصده المفكرون في التراث الذي نقدوه، ذلك الجزء التراثي المؤثر في الحاضر، فالنقد يتوجه إلى كل الأنماط والأنساق الحاضرة في الواقع وتتبع جذورها التاريخية التراثية، ومن ضمنها أحياناً محاولة تفكيك أسباب ظهور هذا النوع من المثقفين منتجي ومتعاطي (الأفيون الشوفيني)، وهل يعود ذلك لارتباط الشوفينية بظهور الفاشية السياسية، أم يعود لبراغماتية فكرية يمارسها البعض للحصول على الجماهير، أم تعود لقيم السوق الرأسمالي التي يعتنقها بعض المثقفين في إعادة إنتاج معرفة (قابلة للتسويق) دون خدش الوجدان العمومي المستهدف كعميل مفترض في هذه السوق (الفكرية)، فما يهم هو القابلية للتسليع كمنتج استهلاكي بامتياز، دون النظر للقيمة المعرفية الحقيقية.

هذا النقد ليس فيه من جلد الذات شيء، ولنتوقف عن ترديد نحن أعطينا الغرب كذا وكذا، فنحن منذ أكثر من ستمائة عام نأخذ من الغرب ولا نعطيه سوى المواد الخام بالمعنى المادي والمعنوي. يكفي أن الاستشراق كعلم قام على مخطوطات عربية لا يعرف عنها العرب شيئاً، وقد نفض الغرب عنها الغبار، ليذهب أبناؤنا متعاطي (الأفيون الشوفيني) المانع من الإحساس بآلام الفجوة الحضارية بين الأمم، فيحفظوا أسماء هذه المخطوطات كانتصارات حضارية سبقنا بها الغرب، ولهذا أصبح توزيع هذا الأفيون معرفة قائمة بذاتها لها كتابها وأكاديميوها وجمهورها، فما معنى أن أعرف عن دور ابن النفيس في اكتشاف الدورة الدموية إلا إذا كنت متخصصا في تاريخ العلوم فقط، لأن الواقع الحضاري الآن يناقش هندسة الجينات، ومقارنة علم وظائف الأعضاء الحديث في أيامنا هذه بأيام ابن النفيس مخجل ومخز في حق الذات، كأن تستمع لنقاش بين متخصصين في إنتاج أول طائرة ركاب تجارية تفوق سرعة الصوت وما يعترضها من عقبات تقنية، ليداخل ساذج أحمق في وسط القاعة ويحدثهم بما يجعلك تغطس في مقعدك من الخجل، إذ يقاطع هذه التفاصيل في هندسة الطائرات وعلومها، بحديث عن عباس بن فرناس كأول من اهتم بالطيران.

إياك عزيزي القارئ أن تتعاطى (أفيون الشوفينية) سوف تصدق أن البريد الإلكتروني ليس إلا امتدادا لبريد الحمام الزاجل أيام العباسيين والمماليك، هكذا بكل بساطة لمجرد تشابه الأسماء، المسألة ليست مجرد (تشابه أسماء بين بريد وبريد)، فالبريد الإلكتروني في جهازك هو امتداد لتاريخ طويل من تطور علوم الرياضيات والكيمياء والفيزياء، ولا علاقة للطيور من أي نوع بجهازك الإلكتروني وما فيه من برامج.

وأخيراً عزيزي القارئ تذكر أن (الرأسمالية) مثلاً فتحت صدرها/بنوكها لما سمي (الاقتصاد الإسلامي) لأن دور منظري هذا النوع من الإسلام في الحقيقة لا يتجاوز (تنظيم الفضاء الذي يستقبل التدفقات الثقافية العولمية من دون أن يكون لهم أي دور في هيكلة محتوى ومضمون الفكر الرأسمالي)، أي أن ما سمي (الاقتصاد الإسلامي) ليس إلا قفازا تسويقيا يخفي تحته (الذراع ذات المخالب الرأسمالية)، ليكتشف العميل أن مخرجات ما سمي (المصارف الإسلامية) في الفائدة أشد قسوة من المصرف التقليدي.