امتدادا لسلسلة المبادرات الرائدة التي تقدمها المملكة، إسهاما منها في خدمة البشرية، ورغبة في تطوير أساليب الحياة لشعبها وللمنطقة من حولنا، كشف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن «مبادرة السعودية الخضراء»، و«مبادرة الشرق الأوسط الأخضر» اللتين سيتم الإعلان عن إطلاقهما في القريب العاجل، لوضع الحلول للعديد من المشكلات البيئية التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط ككل، وترسيخ مفاهيم التنمية المستدامة التي تضمن الاستخدام الأمثل للموارد، وعدم استنزاف الطاقات الاقتصادية، وتجديدها والمحافظة عليها.

مبادرة السعودية الخضراء تهدف إلى التصدي الحاسم والعاجل لعوامل التعرية المناخية التي ظلت تعاني منها بلادنا خلال الفترة الماضية لعوامل عديدة، في مقدمتها التغير المناخي الذي يشهده العالم بسبب تزايد ثقب الأوزون، واختلاف نمط الحياة في المملكة إلى الأفضل بسبب ما تشهده من ارتفاع في معدلات الدخل، وما تتسبب فيه الحضارة الحديثة من أضرار بالغة على البيئة؛ نتيجة لارتفاع نسبة الغازات التي تنطلق من عوادم السيارات وأدخنة المصانع، إضافة إلى تناقص الرقعة الخضراء في مقابل تزايد رقعة النطاق العمراني.

وتمتاز المبادرة التي أعلن عنها سمو ولي العهد بالواقعية الكبيرة، وتستصحب الطموح والواقعية، وتحتوي على كافة التفاصيل الضرورية، فهي تستهدف زراعة 10 مليارات شجرة داخل أراضي المملكة، بما يمكن من استصلاح وإعادة تأهيل ما يزيد على 40 مليون هكتار من الأراضي التي تأثرت بعوامل التصحر وزحف الرمال. زراعة هذا العدد من الأشجار يعني مضاعفة المساحة المغطاة حاليا بالأشجار إلى 12 مرة. كذلك سوف يتم رفع نسبة المناطق المحمية إلى أكثر من %30 من مساحة المملكة، رغم أن المستهدف العالمي لا يزيد على %17 من أراضي كل دولة.

والمملكة عندما تعلن عن مثل هذه المبادرات الرائدة فإنها تنطلق من واجبها الأخلاقي المتمثل في حتمية الحفاظ على البيئة من واقع أنها الدولة التي تسيطر على الإنتاج العالمي من النفط، ولأن البعض يسيء استخدام المشتقات النفطية بالصورة التي تؤدي إلى الإضرار بالبيئة، فإن الإسهام السعودي في مكافحة تلك الآثار السلبية ودفع جهود مكافحة أزمة المناخ يتخذ أبعادا رمزية بالغة الدلالة من شأنها أن تدفع الآخرين للسير في ذات الطريق.

ولا يختلف اثنان على الآثار المدمرة للتغير المناخي على العالم أجمع، فهو المسؤول الأول عن تزايد الأعاصير والفيضانات والعواصف، كما ينعكس عليه تراجع في مساحات الأراضي الصالحة للزراعة وقلة المياه، إضافة إلى ما يسببه تلوث الهواء من غازات الاحتباس الحراري من أمراض وأوبئة يشير كثيرون من الأطباء والمختصين إلى أنها السبب في تناقص معدلات أعمار البشر.

وإدراكا لحقيقة أن منطقة الشرق الأوسط عامة ودول الخليج على وجه الخصوص تتمتع بقوة الترابط بين شعوبها بحيث ينعكس ما تشهده أي دولة على بقية الدول، فقد طرح ولي العهد مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، بحيث يتم التنسيق لتبادل المعرفة والخبرات لاستكمال زراعة 40 مليار شجرة في بقية الدول الشقيقة ليكون إجمالي ما يُزرع ضمن المبادرتين 50 مليار شجرة، وهذا من شأنه أن يحيل منطقة الخليج العربي من منطقة صحراوية إلى واحة خضراء وسط المنطقة.

والاهتمام السعودي بقضايا البيئة والمناخ ليس وليد اليوم، بل يعود إلى سنين طويلة منذ توحيد المملكة، حيث تنص المادة (32) من النظام الأساسي للحكم على التزام الدولة بالمحافظة على البيئة وحمايتها. وخلال السنوات الماضية من حكم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز تزايد الاهتمام بهذا الجانب، حيث أعلن في 21 يناير 2016 عن تنفيذ مبادرة برنامج الملك سلمان للتوعية البيئية والتنمية المستدامة، ومن ثم جاءت رؤية المملكة 2030 لتولي البيئة اهتماما مضاعفا أفردت له مساحات واسعة في محور «المجتمع الحيوي».

كذلك شهدت السنوات الماضية تزايد الاهتمام بحماية وإنماء التراث الطبيعي للبلاد، لا سيما الأنواع النادرة والمهددة بالانقراض من الحيوانات والنباتات والطيور البرية والبحرية، وتم عمل محميات طبيعية تتمتع بأعلى درجات الحماية، وذلك للحفاظ على الحياة الفطرية وإنمائها. ولم تخل الطفرة التشريعية التي تمر بها المملكة من نظام جمع شتات كل القوانين المتعلقة بالبيئة هو قانون البيئة الذي صدر مؤخرا. كما تمثلت أبرز عناصر ذلك الاهتمام في إنشاء (وزارة البيئة والمياه والزراعة) بعد تعديل اسم وزارة الزراعة، ونقل المهام والمسؤوليات المتعلقة بنشاطي البيئة والمياه إليها. كما اعتنت المملكة خلال رئاستها للدورة الماضية لمجموعة دول العشرين بجهود حماية كوكب الأرض، وتم إصدار إعلان خاص حول البيئة وتبني مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون، وتأسيس أول مجموعة عمل خاصة للبيئة فيها، وإطلاق مبادرات دولية للحد من تدهور الأراضي وحماية الشعب المرجانية.

وكم كانت كلمات ولي العهد رائعة عند عرض مبادرتيه الرائدتين وهو يرد على ترهات من يرون أن الاستفادة القصوى من الموارد هي السبيل الأنسب لتحقيق المكاسب الاقتصادية، دون الالتفات إلى قضايا البيئة، وذلك عندما قال بمنتهى الوضوح «نرفض الاختيار المضلل بين الحفاظ على الاقتصاد أو حماية البيئة، ونؤمن أن العمل لمكافحة التغير المناخي يعزز القدرة التنافسية، ويطلق شرارة الابتكار، ويخلق الملايين من الوظائف، ويطالب اليوم الجيل الصاعد في المملكة وفي العالم، بمستقبل أنظف وأكثر استدامة، ونحن مدينون لهم بتقديم ذلك».

مثل هذا الفهم المتقدم جدير بالتقدير لأنه يحمل فكرا متطورا يسعى وراء تحقيق المصالح الاقتصادية، وفي الوقت نفسه لا يتجاهل الأضرار الناتجة عن سوء التعامل مع البيئة، وما يترتب على ذلك من مخاطر صحية ومادية هائلة، فالكثير من البلدان التي اتبعت تلك الرؤية الخاطئة فوجئت في النهاية بكم هائل من الأمراض يحاصر شعوبها ويقتل زهرة شبابها ويضيع مكتسباتها الاقتصادية ويجعلها بلا معنى، لأنها لم تأخذ في اعتبارها مصلحة الإنسان.