في محاولة متجددة لوزارة الموارد البشرية، نحو تحسين اختلالات سوق العمل القائم حول موارده البشرية وطبيعة الأعمال التجارية السائدة، أطلقت الوزارة مبادرتها الأخيرة بخصوص تحسين العلاقة التعاقدية مع الوافدين، والتي تضمنت ثلاثة مسارات، هي: أحقية التنقل الوظيفي للعامل الوافد، خدمات الخروج والعودة، خدمة الخروج النهائي، وضبط تلك الخدمات والمستحقات، وفق شروط محددة ومتطلبات تُقيدها، وإجراءات يقتضي الالتزام بها لتحصيل تلك الخدمات المستجدة.

من المعروف أن هناك متطلبات مستمرة للمنظمات الدولية، من الدول التي تحتويها مظلة الأمم المتحدة كدولة عضو فيها، حول القضايا ذات الصلة بأعمالها والشؤون المتعلقة بجهودها الدولية، ومنها منظمة حقوق الإنسان والقانون الدولي، ومنظمة العمل الدولية، اللتين ترتبط جهودهما بحقوق الإنسان وتنظيم الأعمال على المستوى العالمي، لتكون هناك أُطر تنظيمية وقواعد ضابطة مشتركة بين شعوب العالم.

وعلى الرغم من أهمية تلك الضوابط الدولية والمعايير الحقوقية والقانونية، لتنظيم التعاملات الإنسانية والمؤسسية وتحسين أدائها في جميع الدول، إلا أن هناك اختلافات متعددة وتباينات كبيرة بين الدول في طبيعة التحديات التي تواجهها في مسيرتها الوطنية، وما تستند إليه مجتمعاتها من ثوابت دينية أو قواعد وقيم لمبادئ إنسانية تمثل مجتمعاتها المحلية، والتي يتصل بعضها بالمرحلة التنموية التي تعيشها، أو بطبيعة ونسق الأعمال القائمة فيها، في حين يرتبط بعضها الآخر، بتلك المفارقات الحاسمة بين الدول في طبيعة تركيبتها السكانية من جانب، وواقع مواردها البشرية العاملة من جانب آخر.

وعليه، فإن ما هو مناسب إجراؤه ومطلوب تنفيذه في مجتمعات، قد لا يكون كذلك في غيرها، بسب الاختلافات بين المجتمعات البشرية؛ ولذلك فإنه على الرغم من أن معظم دول العالم تسعى نحو الالتزام بمعايير متطلبات المنظمات الدولية، وما تنادي به من مستحقات بشرية وتنظيمية مطلوبة، إلا إنه لا بد أن نلاحظ أن «بعض» من تلك المتطلبات والدعاوى لتلك المنظمات الحقوقية والعمالية، مُسيسة وتديرها لوبيات دولية تهيمن على تلك المنظمات، لتغيير مسارات كثير من المجتمعات البشرية، وفق أجندة تخدم أهدافا يجتمعون عليها ويسعون إلى تحقيقها وتنفيذها بين شعوب العالم، دون اعتبار لحريات الشعوب في اختيار قراراتها، ودون احترام لتلك الاختلافات التي تتمايز فيها الشعوب والدول فيما بينها.

عندما ترتفع نسبة الخلل في التركيب السكاني، مقارنة بجميع دول العالم- باستثناء إخواننا دول الخليج - في نسبة وجود غير المواطنين لتصل لنحو 40% من سكان المملكة، وعندما ترتفع نسبة العمالة الوافدة المشتغلة في سوق العمل إلى 6.523.298 عاملا وبما يشكل 66.72%، من جملة المشتغلين الذين يبلغ عددهم 9.776.574، ولا يشكل السعوديون منهم إلا 3.253.276 مشتغلا فقط، وبما لا يشكل سوى 33.27% من جملة المشتغلين، دون احتساب العمالة المنزلية التي تبلغ وحدها 3.678.564 عاملا، فإن الوضع يستحق الوقوف عنده ومناقشته.

إن منح مزيد من المستحقات والخدمات للعمالة الوافدة، على حساب المواطن وتحت مظلة وضغط المتطلبات الدولية، لا يُعد فقط تجاوزاً على أمن المواطن المعيشي واستقرار عمله سواء كصاحب عمل أو كموظف، وإنما فيه تشجيع وتحفيز لمزيد من الاستقدام غير المضبوط لعمالة أخرى بديلة-وإن تقيد ذلك بشروط-، لأن فقدان العامل بموجب توفير خدمة حق التنقل الوظيفي المستجد، سيدفع بدوره نحو مزيد من الاستقدام لتعويض البدائل المفقودة في حال لم يتوفر بالتنقل، والذي سيؤدي لمزيد من الخلل السكاني الذي نعاني منه سواء في المكون الوطني للسكان، أو في المكون الوطني للموارد البشرية المشتغلة في سوق العمل، وبما يترتب على ذلك من مضاعفة في استحواذ غير المواطن على فرص العمل المتاحة، ومزيد من البطالة بين المواطنين.

لا ننكر أن هناك تجاوزات من بعض المواطنين على مستحقات بعض العمالة سواء ما يتعلق منها، بالمماطلة في سفرهم وخروجهم النهائي أو المؤقت، أو ما يتصل بتأخير دفع مستحقاتهم المالية أو سوء التعامل الإنساني وغيره، ولكن بالمقابل هناك كذلك استغلال كبير من العمالة الوافدة للمواطن في مستحقاته المالية، وفي مصداقية مردود أعماله التجارية، سواء أكانت نتيجة لعمليات التستر الشائعة، أو كانت نتيجة لممارسات صريحة، ولكن جميع ذلك يمكن السيطرة عليه عبر قنوات مسؤولة وآليات قادرة على رصد تلك المخالفات قانونياً، خاصة مع التقدم التقني والتعاملات الإلكترونية المنفذة ومتابعة التحويلات، بل إن ما يتم تسريبه بطرق غير نظامية، هو الآخر له طرقه ووسائله المتقدمة في الضبط، عبر المنافذ الجوية والبرية والبحرية.

عند إطلاق مبادرات جديدة أو سياسات تتعلق بقطاعي السكان والتنمية، وما يتعلق بهما من تأثيرات ومجالات تنعكس على محيطنا التنموي ومقدراتنا الوطنية، فإنه لا بد وأن تؤخذ جميع الاعتبارات في الحسبان عند وضع تلك الإستراتيجيات، وأن لا تنحصر الرؤية في إطار أُفق ضيق لا يستوعب ما يحيط بذلك من متغيرات وتبعات قد لا تُحمد عقباها، لا بد وأن تكون الرؤية شاملة وواسعة تحتوي الوطن بمقدراته وتطلعاته وتحدياته، وأن تقدم فيها المصلحة الوطنية على جميع المصالح الأخرى والمتطلبات الدولية، والتي لا يمكنها أن تستوعب حجم ونوع ما نواجه من تحديات، في إطار أجندات لمعايير وقيم تريد أن تنفذها على الشعوب، رغم الاختلافات الجذرية بينهم في مكوناتهم الوطنية وتطلعاتهم وأهدافهم التي يسعون إلى تحقيقها.