لم يعد من قبيل إذاعة الأسرار وجود مشروع إيراني واضح المعالم في المنطقة العربية.

هذا المشروع قائم على أساليب كثيرة، لعل أهمها ما يمكن تسميته تكتيك «التحكم لا الحكم»، الذي يعمد إلى إيجاد «متحكم ميليشاوي» يمثل سلطة موازية فاعلة في مقابل «حاكم رسمي» يمثل سلطة صورية غير فاعلة في بلد منقسم بين سلطتين تتصارع مكوناته المختلفة فيما بينها.

وهذا التكتيك يقتضي أولا عدم إرسال قوات إيرانية ظاهرة للعيان للسيطرة على الأرض، والاستعاضة عن ذلك بمرتزقة أو وكلاء طائفيين من أبناء الأرض يتم بناؤهم عقائديا وأيديولوجيا وعسكريا وتمويلهم ماليا من طهران، لخدمة أهداف إيران على حساب مصالح بلدان هؤلاء الوكلاء المحليين الذين يقدمون لطهران خدمات كبيرة، في مقدمتها مساعدتها على عدم الظهور بشكل سافر، في المراحل الأولى للسيطرة، قبل أن تأتي المراحل التي تكشف فيها طهران صراحة عن حقيقة أهدافها وإنجازاتها التي يتباهى من خلالها مسؤولون إيرانيون بسيطرة بلادهم على عواصم عربية بعينها ضمن الإستراتيجية القائمة على «التحكم» الذي يتيح لها السيطرة، بعيداً عن «الحكم» المباشر الذي يحملها المسؤولية.

هذا التكتيك يعتمد أساسا على مبدأ إيراني راسخ يتمثل في العمل على تفجير البلدان من داخلها، بدعم أقليات مذهبية وطائفية لخلخلة النسيج الاجتماعي، وضرب شرائح مجتمعية ببعضها تمهيدا لإسقاط الأنظمة، ومن ثم إسقاط الدول، وتحويل المجتمعات أو الشعوب العربية المستهدف إلى مجموعة من المكونات الطائفية والعرقية المتصارعة، ليتسنى لطهران بعد ذلك أن تجعل لوكلائها اليد الطولى في مجتمعات أنهكتها الصراعات التي مكنت وكلاء طهران من التحكم بمقدراتها سياسيا واقتصاديا.

وعلى الرغم من كون هؤلاء الوكلاء أقلية كمية، فإن محاولات «تغليب الأقلية» تتم بضرب مكونات الأغلبية الكمية ببعضها من جهة، وبدعم تلك «الأقلية الكمية» لتصبح «أغلبية كيفية» بالمعنى النوعي، بما يساعد على تمكينها عسكريا واقتصاديا وسياسيا في البلد الذي شاء حظه التعيس أن تصله أصابع التخريب التي يحركها نظام الولي الفقيه.

هذه الوصفة الإيرانية في «التحكم لا الحكم» هي الوصفة التي جعلت طهران ووكلاءها أو مرتزقتها في المنطقة يتمتعون بمزايا «السلطة»، دون أن يتحملوا ولو قدراً يسيراً من «المسؤولية».

تلك الوصفة مكنت نظام طهران من كعكة السلطة والثروة في بلدان عربية تحكم بها ذلك النظام، لكنه يقول إنه لا يتحمل مسؤولية ما يجري في تلك البلدان من خراب مادي ومعنوي.

والشأن ذاته بالنسبة للوكلاء الذين جعلتهم طهران داخل بلدانهم في وضع يجعلهم يتمتعون بـ«سلطة الميليشيا، لكنهم لا يتحملون مسؤولية الدولة».

فحزب الله في لبنان- على سبيل المثال- يتمتع بكل امتيازات السلطة الحاكمة، لكنه لا يتحمل مسؤوليات الدولة اللبنانية، فهذا الحزب يتحكم بكل تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، ولكنه لا يتحمل مسؤولية تقديم الخدمات وبناء الاقتصاد، وتبعات تصرفاته اللامسؤولة التي تتحملها الدولة اللبنانية.

وبهذا الأسلوب يتحصل الحزب على كل ما يريد، دون مقابل، أو كما قلنا يتحكم بالسلطة، دون أن يتحمل المسؤولية أمام الشعب عن تردي الخدمات وتراجع الاقتصاد وغير ذلك من مسؤوليات قضت الوصفة الإيرانية أن تقع على عاتق الدولة لا الميليشيا.

إنه أسلوب «التحكم لا الحكم» الذي يأتي بـ«متحكم ميليشاوي» لديه سلطة حقيقية ولا مسؤولية عليه، في مقابل «حاكم رسمي» عليه مسؤولية حقيقية ولا سلطة في يده.

هذا الأسلوب في إنتاج «حاكم رسمي مسؤول» و«متحكم ميليشاوي غير مسؤول» يبدو مطبقا في اليمن كذلك، حيث عملت طهران على جعل الحوثيين نموذجاً لحزب الله اللبناني، حتى أن تسميتهم «أنصار الله» جاءت مشابهة لتسمية الحزب الإيراني في لبنان.

واليوم «يتحكم» الحوثي بمعظم المناطق المكتظة بالسكان في البلاد، ويتحصل على كعكة دسمة من السلطة والثروة، لكنه لا يتحمل مسؤولية إدارة الخدمات وصرف المرتبات التي يطالب الحوثيون بها حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي الذي لا «يحكم» مناطق سيطرة الميليشيات.

أخيرا: تعد منهجية «التحكم لا الحكم» من أهم التكتيكات التي يعتمد عليها النظام الإيراني في الترويج لـ«الفوضى الهدامة» التي تقوم طهران عن طريقها بإدخال الأقلية في صراع مرير مع الأغلبية لإنهاك المجتمعات والدول تمهيدا للسيطرة عليها بأيسر الطرق وأقل التكاليف، لصالح نظام سخر معظم إمكانيات شعبه في إشعال الحروب والنزاعات، سعيا وراء أوهامه القومية في السيطرة على بلدان المشرق العربي.

لكي تنتهي هذه اللعبة الإيرانية لا بد للعرب- أنظمة وشعوبا- أن يدركوا أولا طبيعة تلك اللعبة الخطيرة، ومن ثم العمل على تفكيك مفعولها بتقوية الروابط القومية والتخلص من ثنائية «الأغلبية والأقلية»، والانفتاح على المشاركة الشعبية والاهتمام بنوعية التعليم ودفع عجلة التنمية، وغير ذلك مما يمكن أن يندرج ضمن خطوات بناء «مشروع عربي» متكامل لمواجهة المشروع الإيراني التدميري في المنطقة.