يعد كتاب «الاستشراق» للمفكر إدوارد سعيد واحدا من أهم الكتب الفكرية في القرن العشرين ومن أكثرها تأثيرا، فقد فتح الكتاب آفاقا جديدة للعلاقة الشائكة والمعقدة بين الغرب والشرق، بما تميزت به نظرته العميقة لحقل الاستشراق بمعالجة دقيقة ونظرة ثاقبة وضعت كل نتاج الاستشراق الأدبي والأكاديمي على طاولة الشك والريبة وإعادة النظر. ونقد إدوارد سعيد للاستشراق أظهر روح المثقف الحقيقية لديه بعد أن كشف زيف كثير من البحوث والدراسات المتعلقة بالشرق، وأعطى انطباعا بأن عالم الشرق الموجود في كتب المستشرقين ليس إلا عالما مزيفا متخيلا أو شبه اختراع أوروبي حسب تعبير سعيد، فقد صنع الاستشراق صورة متخيلة للشرق مليئة بالقصص والمغامرات والكائنات الغربية والصور النمطية التي تصور الشرق وحضاراته، وكأنه عالم متخلف ووحشي يحتاج لمن يقوده للتحضر والتمدن.

إن تلك الصورة المتخيلة للشرق لا تقل خيالا وزيفا عن عالم الفلسفة والفلاسفة التي صورت لنا قصص البطولة والنضال وفرسان الفلسفة، وهم يخوضون معارك التنوير والعقلانية لتحرير البشرية من نير الكنيسة وهيمنة رجال الدين. وكيف ننسى قصة سقراط المؤثرة ومحاكمته الدرامية وإدانته بتهمة إفساد الشباب. وسط هذه الأحداث الدرامية يجلس سقراط تحت شجرة يعلم تلاميذه الحكمة ويمشي حافي القدمين لأنه لم يكن يملك المال الكافي، ويقف أمام المحكمة يجادل ويقدم حججه المنطقية الدامغة، وفي نهاية المحكمة الهزلية يحكم عليه بالإعدام بتهمة عدم الإيمان بآلهة الدولة، وإفساد عقول الشباب، ويموت سقراط أخيرا بعد تناوله سم الشكران ويسجل نفسه كأول شهيد للفلسفة في التاريخ، بعد أن قدم روحه فداء من أجل التنوير والعقلانية.

ولم تخلد سجلات تاريخ الفلسفة سوى قصص الفلاسفة أصحاب العقول الآرية، ولم تسرد لنا سوى قصص البطولات التي خلدوها وهم يصارعون قوى الظلام والخرافة بسلاح العقل والمنطق، فأصحاب العقول الآرية عقلانيون ومنطقيون بطبيعتهم، ويتوارثون العقلانية أبا عن جد، فجينات العقلانية تسري في دمائهم، بعكس أصحاب العقول السامية العاطفيون الخرافيون الذين يحتاجون من يأخذ بيدهم للتحرر من أغلال الوحشية والأسطورة.

يلعب الخيال دورا كبيرا في صناعة تاريخ الفلسفة وإنجازات الفلاسفة، فأصبح صعود الغرب وتأخر الشرق يعود فضله للفلاسفة وأفكارهم النيرة، وعصر التنوير الذي شهد معارك الفلاسفة مع خصومهم لم يخل هو الآخر من الخيال وقصص الفنتازيا والانتصارات الوهمية. فكل ما كتب عن التنوير وعصور الاستنارة ذات النهايات الميلودرامية لا يفسر حقيقة التاريخ الفلسفي المعقد وتطور الأفكار الإنسانية. فقد كان تاريخ الفلسفة خبرة تاريخية تراكمت بشكل خاطئ وصنعت له صورا نمطية ذات أشكال مركبة واختزالية، تضع الـ(نحن) في مقابل الـ(هم) ولا تراعي حقيقة أن الثقافات مهجنة ومتعددة العناصر.

كانت الفلسفة ضحية تاريخها المتحيز، وعصور التنوير وفلاسفته ومعاركهم البطولية ضد قوى الظلام لعب الخيال دورا كبيرا في تشكيلها، وللأسف فإن كثيرا من المثقفين العرب وقعوا في فخ هذه الصورة المتخيلة لتاريخ الفلسفة وفرسانها المناضلين، فأصبحوا يتبنون هذا التاريخ الخيالي ونهاياته الميلودرامية، ويبنون عليه أفكارهم وتوجهاتهم. ولعلنا نختم مقالنا بما قاله المنظر السياسي الأمريكي صامويل هنتنغتون في كتابه الشهير صدام الحضارات: «وقد استطاع الغرب أن يكسب العالم ليس فقط بسبب تفوق أفكاره أو قيمه أو دينه -الذي تحول إليه عدد من الحضارات الأخرى- وإنما بالأحرى بسبب تفوقه في تطبيق العنف المنظم، وكثيرا ما ينسى الغربيون تلك الحقيقة ولكن غير الغربيين لا ينسونها».