لا يخلو اجتماع إنساني من لطائف مسائل معاصرة تُحاكي واقعها وتبحث عنه سواء كان ذلك في أصل تلك المسائل أو تاريخها أو ما تتعلق به في واقع الإنسان المعاصر، ثم إن مجتمعنا يمتاز بمزية في تلك الحوارات والنقاشات، وهي مزية فكرة مشروعية ذلك الحدث مهما يكون. وهذه ثقافة لها جذور عميقة ضاربة في أطناب فكر مجتمعنا، وأعني بفكرة مشروعيته من حيث حكمه الشرعي، هل هو التحريم أي أنه فعل محرم، أم أنه فعل باق على البراءة الأصلية، ويدخل في حكم المباح. خلال اجتماع كان عائليا، دار بين المجتمعين حوار عاصف، فكنتُ منصتا استمع، فلم أكد أصدق ما سمعته من حوار حقيقي وجاد بين مُحَرِمٍ (اسم فاعل من حَرَّمَ الشيء أي وصفه بالتحريم الشرعي) ومُبدِّعِ (اسم فاعل من بَدَّعَ أي اتهمه بالبدعة) في مسألة الاحتفال بيوم الأم، وهو يوم الأحد قبل الماضي الموافق للحادي والعشرين من مارس الماضي، فبعدما احتفلوا بيوم الأم وقدموا الهدايا والورود لوالدتهم، وأدخلوا فرحتهم لتلك البرامج الناقلة لكل سكنات وحركات البشر وهي تطبيقات السوشال ميديا. ما أن انتشرت وقائع تلك الفرحة بيوم الأم إلا وجاءت تلك الأصوات التي تميل للتطرف والتشدد المنحاز والمتحكم والاختياري في نهجه بلا مرجح شرعي أو عقلي، بقولهم إن الاحتفال بيوم الأم حرام شرعا وأن مرتكبه قد ارتكب بدعة وفعلا محرما!!. وهذه حقيقة من ينتهج هذا النهج التحريمي المتحكم والانحيازي، وهم أفراد لا يزالون يتمسكون بفكر صحوي في مسائل التشدد، وذلك في مسألة المرأة والاحتفالات والغناء والموسيقى، وإسبال الإزار وإطالة اللحى وغير ذلك من المسائل التي كانت معروفةً زمن الصحوة المشؤومة. هذه الفئة التي تميل للنهج التحريمي الرغبوي ليست ذات صبغة دينية كاملة بل إنك تجدها في أمور أخرى أشد علمانيةً من الفرنسيين، وهذه من المفارقات العجيبة في مجتمعنا!!. فهم يلبسون آخر صيحات الأزياء الفرنسية والإنكليزية سواءً في الحقائب ذات الماركات العالمية أم الأحذية ذات الأسعار الغالية جدا، والأمريكية في كل ما ترتديه أجسادهم فإنك سوف تجد علامة أوربية من صنع بني الأصفر والأحمر شرقا وغربا، وهذه إشكالية أخلاقية وثقافية متجذرة في عمق مجتمعنا وتحتاج إلى مشرط خبير كي لا تتكرر المآسي برجوع الفكر الرغبوي التحريمي الذي قاد مجتمعنا فترات طويلة، فأنتج ما مضى وأخرج لنا ما نراه من عينات تعشق وتهيم في الميل والجنوح إلى التحريم والرغبة في فرض التشدد ليكون مسارا للمجتمع. ولا شك أن التحريم هو حكم تكليفي شرعي من الأحكام التكليفية الخمسة المنصوص عليها في كتب أصول الفقه وهي المباح والحرام والمكروه والواجب والمسنون، وهذه الأحكام التكليفية هي التي تحكم أفعال المكلفين وتصرفاتهم، وذلك أن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، وهذا الخطاب ينقسم إلى قسمين رئيسين وهما خطاب تكليفي وهو الذي يتضمن الأحكام التكليفية الخمسة التي تحكم أفعال المكلفين التي ذكرتُها آنفاً، و الآخر من قسمي الخطاب الشرعي هو خطاب وضعي وقد تواردت تعريفات علماء الأصول على أنه (خطاب الله المتعلق بجعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا كجعل الله تعالى زوال الشمس سببا لوجوب صلاة الظهر، وجعله الطهارة شرطا لصحة الصلاة، والنجاسة مانعة من صحتها، فإن هذا الجَعل المذكور حكم شرعي استفدناه من الشارع وليس فيه اقتضاء ولا تخيير)، وكلا الحكمين التكليفي والوضعي هما من الرؤى والتصورات التي قررهما الفقهاء والأصوليون في ضبط الحكم على أفعال المكلفين عند الاجتهاد في إصدار حكم شرعي متعلق بتلك الأفعال والتصرفات. ومن تلك الرؤى والتصورات قواعد وأسس متقررة لا يمكن الحياد عنها، وذلك لأنها متأسسة بيقين من حيث الدلالة ومن حيث الثبوت. فمن تلك الأسس والقواعد اليقينية التي تحكم أفعال العباد وتصرفاتهم، وجاءت الشرعية الإسلامية بحمايتها أن الأصل في الأشياء هو على الإباحة الأصلية، وهي قاعدة أصل المضي والعيش في الحياة المعاصرة إذا ما أردنا التطور والتنمية وكبح كل العوائق لحياتنا المعاصرة (وكل من صيغ العموم عند الأصوليين فهي تُدخل كل شيء يكون عائقا). ومعنى هذه القاعدة أن كل شيء في هذه الدنيا فهو مباح فعله بغض النظر عن مجاله وتخصصه، فإذا كان هذا الشيء يتعلق بتصرف يقوم به المكلف سواءً في نفسه أو لغيره فإن هذا الفعل يتصل بأصل الإباحة منذ تصوره العقلي حتى خروجه للعلن وللوجود، وهذا الأصل متصل اتصالا وثيقا بوجود المكلف، ويسري ويجري منه مجرى الدم، ومن أراد أن يُطلق على هذا الفعل والتصرف الذي قام به ذلك المكلف أنه فعل محرم في خطاب الشارع الحكيم وأنه يترتب عليه إثم شرعي فإن هذا المدعي والقائل بالتحريم هو من يتوجب عليه أن يأتي بدليل معتبر شرعي من حيث دلالته ومن حيث ثبوته كي يُخرج ذلك الفعل والتصرف المباح من ساحة وفضاء الإباحة الواسعة إلى قيود وفروض التحريم، وهذه القاعدة هي قاعدة أصيلة وثبوتها من حيث أدلة الشرع أنها ثابتة ثبوتا قطعيا وليس ظنيا، أي أنها ثابتة من حيث جهة النقل المتواتر الذي لا يمكن لأحد رده أو الطعن في ثبوته، وكذلك هي قاعدة ثابتة من حيث دلالتها فكل علماء الأصول والفقه والحديث يُقررون صحة دلالة هذه القاعدة، وجميع كتب الفقهاء وكتب الفتاوى بمختلف المذاهب تجدهم يستدلون بهذه القاعدة إذا ما سئلوا عن فعل ثارت بسببه الاختلافات فإنهم يجنحون إلى التمسك بهذه القاعدة، وأن الأمور على الإباحة الأصلية حتى يرد دليل شرعي معتبر من حيث ثبوته ودلالته يُخرج ذلك الفعل من الإباحة الأصلية إلى الفعل المكروه أو المحرم. فإذا ما أنزلنا قاعدة البراءة الأصلية على أفعال المكلفين فإننا لن نجنح إلى التطرف والتشدد إلى التحريم الرغبوي بل إننا سوف نتروى في كل إطلاقات الأحكام على أفعال المكلفين ولن تكون كثير من المناسبات المباحة التي يحتفل بها جميع العالم وهي متوافقة مع المقاصد الشرعية والضوابط العقلية في أنها أفعال يجوز فعلها، بل إنها قد تكون من الأمور التي يتشوف الشارع إلى فعلها والحض عليها وذلك مثل الاحتفال بيوم الأم فهو داخل بيقين في مقاصد الشريعة التي تحض على الإحسان للوالدين، ولولا خشية الإطالة لتوسعتُ في إيراد كثير من الأدلة، والعرب من عادتها الإطالة كي يُفهم والإيجاز كي يُحفظ عنها فقد قيل لأبي عمرو بن العلاء هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم، ليُفهم عنها، فقيل له: فهل كانت توجز؟ فقال: نعم ليُحفظ عنها، ثم أنشد:

يرمون بالخطب الطوال وتارةً وحْيَ الــمُــــلاحِــظِ خيفة الرُقباء