لا دليل حتى الآن، على أن نهضة الشعر العربي الحديث تزدهر على أيدي الجيل اللاحق، فهي لا تزال تدور حول نفسها، وكل ما نراه عند معظم شعراء هذا الجيل، محاولات شكلية تلازم السطح، ولا تغوص إلى الأعماق وراء تجربة شعرية جديدة، وتماديا في اتباع آثار الجيل السابق إلى حد الابتذال والتشويه، ويظهر هذا كله في نقل أو اصطناع عبارات ومفردات شعرية، منفصلة عن حرارة العاطفة ومعاناة التجربة، وفي تكوين صور واستعارات وتشبيهات مفتعلة، لا تفعل في القارئ ولا تثيره، فهي تسرف في اصطياد الغريب الشاذ، لتغطية عجزها وملء فراغها.

فالشاعر الحقيقي لا يلجأ إلى القوالب والأشكال، للتأثير على قرائه، ولا يطمح إلى أن تكون هذه، رغم بيانها الرائع وشطارتها اللغوية، سبيله إلى التجديد، بل يغوص إلى أعماق نفسه ويخرج منها بتجربة، تأخذ في التعبير عن حجمها الحقيقي، وإلا يصبح التعبير نظريا منقولا، لا صلة له بصدق التجربة وحقيقتها، فما العبرة في الصيغ والألفاظ، بل فيما وراءها، والقارئ يعرف صدق ما وراءها إذا أحس في أعماقه بها، وكشفت له عن الوحدة والنظام، فيما وراء الظواهر التي يراها في نفسه وفي العالم حوله. وحين نقول إن بعض الشعراء المعاصرين، على اختلاف أجيالهم تمادوا في استغلال الآفاق الجديدة، التي انفتحت على الشعر العربي في ربع القرن الأخير، فإنما نعني أن هؤلاء -ومن قلدوهم- انصرفوا عن أصالة التعبير إلى تزييفه، وعن بساطته وحراراته وصدقه، إلى تعقيده وصبه في قوالب حيادية باردة يسهل تقليدها، ولذلك نرى سرعة انتشار هذا النوع من الكتابة الشعرية عند المواهب الشابة. فهذه لو صدقت لاتخذت في التعبير عن تجربتها المتواضعة، تعبيرا متواضعا يرتفع مع ارتفاع تجربتها، إلى عطاء مكتمل صادق. فالنهضة الشعرية، إذن، لا تزال في انتظار مواهب جديدة لا تسحقها العوامل الآتية:

1 - طغيان التفكير السياسي والعقائدي السطحي على رؤية المواهب الجديدة، وعلى تجسيد هذه الرؤية، ويعود ذلك إلى مرحلة التخبط والتلمس والصحو التي نعيشها.

2 - خضوع هذه المواهب، بمعزل عن حرية الإنسان ومرامته، ووقوفه وحيدا منفردا أمام الحقيقة.

3 - ضعف ثقافتها وانغلاقها على منابع الفكر والإبداع الإنساني العالمي، وارتماؤها في أحضان النزعات والتيارات المعادية للإنسان ولتراثه وحضارته، ويعود ذلك في الأكثر إلى السياسة التعليمية المنغلقة، المتلبسة باطلا وخطأ بالغيرة الوطنية والقومية، بحيث تحول دون الطالب وإتقانه ولو لغة عالمية واحدة، وأنا أتساءل بمرارة لماذا لا ننفق شيئا يذكر على إنماء العقل العربي، بالعلم والثقافة والمعرفة، وهذه في أساس كل نهوض حقيقي وقوة حقيقية.

4 - ويتبع مما ذكرنا ضحالة التربة الثقافية، والوعي الثقافي في المجتمعات العربية، بحيث يتعذر على الأديب المبدع أن يتغذى ثقافيا وروحيا من محيطه، ويعيش حياة تمكنه من العيش بقلمه، فمن دون التفرغ والانصراف إلى شؤون الفكر والروح، والتأمل في المشاكل الإنسانية العربية وسواها من المشاكل الإنسانية، ومعايشتها ومعاناتها والالتزام بها، لا يمكن أن يقوم إبداع على المستوى الذي نتوخاه.

والسؤال الذي يجب أن يوجه إلى كل شاعر طالع هو: «هل تقرأ شعرا عالميا معاصرا بلغته الأصلية؟ هل تتابع الحركات الشعرية المعاصرة في العالم؟»، فإذا أجاب: «لا»، فعبثا نأمل منه ومن أمثاله نتاجا جديدا مبدعا، يدفع حركة الشعر إلى الأمام. الشعر لغة، أو هو حياة اللغة.. فلولاه لا تتجدد اللغة ولا تنمو ولا تبقى، فهو دائما يخلقها «كتابيا» ويخلقها المتكلمون بها «كلاميا»، وبين الخلق الكتابي والخلق الكلامي صلة حميمة جعلت «عزرا باوند» و«ت.س. إليوت» وسواهما من أقطاب الشعر والنقد المعاصرين، يقولون بضرورة اقتراب الشعر في الأخص من الكلام المحكي، والاستفادة منه حتى في الإيقاع.

أما في لغتنا العربية فلا يتم هذا التفاعل إلا ببطء كبير، لأن لنا لغتين تطورت إحداهما من الأخرى، واتسعت الهوة بينهما إلى حد الانفصال.. فهل ينهض العقل العربي إلى ردم الهوة؟ وهكذا يصير لنا أدب حقيقي، لغة حقيقية تعكس الواقع من كل وجهة، وخصوصا الوجه اللغوي الذي هو الوجه العقلي الإنساني.

1997*