من خلال خبرتي الطويلة في مجال التربية والتعليم توصلت إلى معلومة ليست بجديدة، لكن كما يقال: تعلمتها بالطريقة الصعبة!. تميل عادة مؤسسات التعليم إلى التركيز على الأداء في كيفية قياس وتقييم الأشخاص، بمعنى أنه حين البحث عن شخصيات للقيادة أو مجموعة فريق للقيام بمهام خاصة أو بالتقرير من يبقى ومن يرحل، يتم النظر إلى جزئية واحدة فقط من السيرة الذاتية، الجزئية التي عادة ما تكون سهلة القياس والتقييم. حقا من خلال خبراتكم في مجالات عملكم المختلفة كشريحة من القراء، كم مرة سمعتم فيها التبرير التالي: «صحيح أننا لا يمكن الاعتماد على هذا الشخص، ومن الصعب العمل معه، ولكن لا يوجد حولنا من لديه خبرة أكثر حول هذا الموضوع، ولهذا نحن بحاجة إلى مثل هذا الشخص في الفريق أو في موقع القيادة»!.

«الأداء مقابل الثقة»، هذه ليست كلماتي، بل أخذتها من محاضرة لسايمون سينك المؤلف والمدرب وهو يتحدث عن كيفية اختيار أعضاء فريق «القوات الخاصة السداسي» في البحرية الأمريكية، فريق نخبة النخبة؛ حيث ركز فيها على أهمية «الثقة» بالنسبة لأعضاء الفريق، فعندما كان يعمل مع الفريق سألهم كيف تختارون أعضاء الفريق من بين كل هذه النخب التي أمامكم؟ تم وضع رسم بياني أمامه يحتوي على عاملين: على الجانب الرأسي كتبوا «الأداء»، وعلى الجانب الأفقي كتبوا «الثقة»، حيث إن الأداء هو كيفية أدائهم في ساحة المعركة؛ أي مقارنة بالعمل المؤسساتي هو جني الأرباح أو التوصل إلى النتائج العالية، والثقة هي كيفية أدائهم خارج ساحة المعركة، أي في العمل المؤسساتي هو كيفية التعامل مع الزملاء والعملاء، بمعنى: أي نوع من الأشخاص أنت؟ ويقول سايمون إنه حسب وصف الفريق: «إنه يمكن ائتمان هذا الشخص على حياتي، لكن هل يمكنني أن آمنه على نقودي وزوجتي؟»، ثم أضافوا أنه بالطبع لا أحد يريد الشخص قليل الأداء وقليل الثقة، وبالتأكيد يرغب الجميع في الشخص المرتفع الأداء والثقة، لكن ما تعلّموه من خلال عدد سنوات طويلة من الصعوبات والإخفاقات المختلفة، أنه يمكن تعليم الأداء وتحسينه، ولكن لا يمكن اكتساب الثقة من شخصية تتصف «بالنرجسية وعدم الاهتمام بالغير، الشخصية التي تسعى إلى بناء مجدها ضاربة بعرض الحائط مصالح كل من حولها»، وعليه فإن الثقة هي الصفة الأكثر قيمة عند اتخاذ قرارات بالغة الأهمية مثل اختيار القادة أو أعضاء الفريق، وذلك لأن الشخص صاحب الأداء المرتفع والثقة المنخفضة هو قائد أو عضو سام الشخصية، وهم يفضلون الحصول على شخص ذي أداء متوسط وثقة مرتفعة، حتى إنهم أحيانا قد يفضلون شخصا ذا أداء منخفض وثقة مرتفعة على صاحب الشخصية السامة.

يقول سايمون، إن المشكلة اليوم عند القيام بعمليات الاختيار هي عدم توازن معاييرنا، فهنالك، حسب قوله، معايير لا تحصى لقياس أداء الشخص، وانعدام أو ندرة معايير قياس موثوقية الفرد، ولهذا الذي يتم فعله هو ترقية أو مكافأة «السمّية» في بيئة العمل، والذي هو أمر ضار على المدى البعيد، لأنه يؤدي إلى تدمير أو تعطيل المنظمة أو المؤسسة بكاملها في نهاية المطاف. والحقيقة أنه يمكن التعرف على الشخصيات السامة بمنتهى السهولة، إن توجهت إلى أعضاء أي مؤسسة وطلبت منهم أن يشيروا إلى الشخصية «السامّة» سوف يشير الغالبية إلى نفس الشخص، وبالمقابل إذا سألتهم من هو أكثر شخص تثقون به، من الذي يدعمكم دائما ويبقى معكم عندما تسوء الأمور؟ سوف تشير الغالبية إلى نفس الشخص، وهذا هو بالضبط القائد الأفضل الذي يقدر على خلق بيئة تمهد لنجاح الجميع وليس القائد الأعلى أداء.

فكرة أن الثقة هي نقطة انطلاق أساسية لاختيار القادة أو فريق العمل الجماعي لها آثار مهمة على جميع القادة، أنت كقائد إلى أي مدى جدير بالثقة؟ كيف يمكنك تعزيز مستويات أعلى من الثقة بين موظفيك أو منسوبي مؤسستك؟ كيف يمكنك قياس (ومكافأة) الثقة بالطريقة التي تقيس بها الأداء وتكافئه؟ ابدأ بالثقة وابنِ نجاح مؤسستك من هذه النقطة، ولتعلم أن كل شخص لديه تلك الصورة في رأسه للقائد الذي قطع شوطا إضافيا من أجله لأنه شعر بالولاء له، ذلك القائد أو المدير الذي أحبه حقا لأنه عامله جيدًا واهتم به وكان جديرا بالثقة، هذا المستوى من الترابط الجماعي هو ما يجعل فريقًا عالي الأداء، وليس شخصًا واحدًا يعتقد أنه يمكنه فعل كل شيء وأي شيء بأعضاء فريقه فقط للتوصل إلى النتائج التي يسعى إليها والتي سوف تضيف إلى مجده الشخصي، المغزى هنا إذا كان فريقك لا يؤمن بك، فقد انتهيت، بغض النظر عن مدى قوتك ورفعتك!.

في النهاية أقول لكل قائد: دع فريقك أو منسوبي مؤسستك يشعرون بأنك تهتم بهم، بأنك تحمي ظهورهم، بأن مستقبلهم في أيد أمينة ولا يتوقعون الغدر في أي لحظة، أو أنك ستقدم مصالحك أو مصالح المؤسسة على حسابهم، أي أن تظهر لهم بالفعل وليس بالقول إنك تهتم بما يجري لهم، لأن الناس لا يهتمون بما تحمله من علم أو خبرة إلا حينما يدركون مدى اهتمامك بهم، وعندها سوف يقدمون لك أفضل ما لديهم، وانتبه جيداً إلى فكرة أن من يدخل حديثا إلى المؤسسة ويراقب سلوكياتك مع من سبقه سوف لا يلتفت إلا إلى بناء مجده هو الآخر حتى يؤمّن نفسه، وبهذا تكون قد ساهمت في تحويل المؤسسة إلى خلية دبابير بدلا من خلية نحل تنتج وهي ترتقي، فكلٌّ، إلا من رحم ربي، بات منشغلا بكيفية لدغ الآخر حتى يحظى بقطعة أكبر من الفطيرة!.