في هذا العالم «المُتسع»، وإن أردت استبدال الحرف الأخير بما تريد، تحولت الأساسيات والمُحركات والقواعد العامة، وأصبح لا مكان للقوة أو النفوذ أو السياسة على الأقل في المرحلة المقبلة من التاريخ، فالوقت كما يبدو حان لأن يُمسك الاقتصاد دور المحرك الأول للحياة الإنسانية برُمتها بالاستغناء عن رديفه الأساسي والتاريخي «السياسة». إذ لم يعُد سادة القصور سادتها، إنما تحولوا إلى مراقبين ومشاهدين للعامل في أسواق المال والبورصة والنفط.

وواقع الحال الذي دفع رموز القوى الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية «الحلفاء آنذاك والمتخاصمون حاليًا» للوقوف أمام الزعيم النازي في ألمانيا، يقودنا لتقليب بعضًا من أوراق التاريخ التي تحكي تلك الحقبة.

وحتمًا سنجد العديد منها يُبرز كيف حاولت الأطراف الثلاثة «الاتحاد السوفييتي وانجلترا والولايات المتحدة الأمريكية» الوقوف أمام هتلر لمنعه من السيطرة على القدرات النفطية التي كانت تتمتع بها إيران في تلك الفترة، عبر ما سُمي «مؤتمر طهران» الذي عقد في مقر السفارة السوفييتية بطهران، بحضور الزعماء الثلاث «ستالين وتشرتشل وروزفلت». إنقاد حينها روزفلت بكرسيه المتحرك لقطع 7 آلاف ميل لمنع السوفييت من وضع أيديهم على إيران، مقابل الموافقة على مطالبهم الجغرافية في «البلطيق، ورومانيا، وبولونيا».

وحتى عهدٍ قريب حين احتل الاتحاد السوفييتي أفغانستان، كانت الشكوك تراود الإدارة الأمريكية وقتها، من أن أفغانستان ستكون الطريق أو البوابة التي ينوي السوفييت الدخول عبرها إلى الأراضي الإيرانية للحصول على مصادر النفط والطاقة، لذا كان الخيار الأمريكي قائم على طرد ودحر القوات السوفييتية وإخراجها من الأراضي الأفغانية خشية السيطرة على تلك المنابع الحيوية،وبالفعل هذا ما تحقق.

ما سبق مما يشبه السردية التاريخية التي اعتمدت على بعض الاجتهادات والقراءات، فتح شهيتي لها الاتفاق الذي دخله التنين الصيني مع الجمهورية الإيرانية ويستمر لـ25 عامًا، تستطيع من خلاله بكين العبور إلى المنطقة، وبالتالي تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط، وتتمكن عبره طهران التي تُعلن العداء الواضح لأكثر من نصف الأرض، من الالتفاف على العقوبات الأمريكية والدولية، وبالتالي الاستفادة اقتصادياً بما يعود على استمرار ممارساتها التخريبية في المنطقة والعالم.

إن المشهد السياسي العالمي يدفع للمقارنة بين من يفكر ويعمل بطريقة استراتيجية، ومن يعمل بالنظر إلى أخمص قدميه لا أكثر. فبكين التي تُحاربها جُل قوى الأرض، تملك الهدوء الذي يفرضه العمل والتخطيط الاستراتيجي، في مقابل الولايات المتحدة، التي أُصيبت بداء الكبرياء والغرور السياسي نظير قاعدتين مزيفتين، الأولى: الحلم الأمريكي، والثانية: شرطي العالم.

وفي نهاية الأمر اكتشف العالم بأسره ألا هذا يصلُح نتيجة انقشاع الزيف حول الديمقراطية، ولا ذاك بات فاعلًا، بدليل تنامي نفوذ الإرهاب الإيراني في العالم. قبل كتابة هذه السطور، شدني قول مسؤول أمريكي على هامش مؤتمر فيينا الذي بدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية كالمُستجدي لطهران من أجل العودة للاتفاق النووي الذي مزقه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، خصم وغريم الرئيس الحالي جو بايدن، «الضغوط القصوى فشلت في الحد من تصرفات إيران بالمنطقة».

وتخرج على الفور طهران للقول «لن نجمد خطوات خفض الالتزام»، في إشارة إلى الالتزام بتخصيب اليورانيوم حسب الاتفاق النووي السابق، بل وطالبت بـرفع 1600 عقوبة موقعة عليها. حسب ما أرى فقد بدت واشنطن في هذا المشهد الحلقة الأضعف، لا سيما أن في حديث المسؤول الأمريكي نوع من المبررات لطهران، أو ربما يكون قد منحها دافعًا معنويًّا بشكلٍ غير مباشر، يُمكنها الاستناد عليه للاستمرار في سياستها التخريبية، وخرجت في الحين ذاته - طهران - بمظهر المنتصر على دول المجموعة 5+1 وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، واكتسبت من خلال التراخي الأمريكي الذي تُكرس له الإدارة الأمريكية الجديدة موضعًا أقوى من السابق. أتصور أنه إذا كانت الإدارة الأمريكية بزعامة جو بايدن تُعول على تلك الاتفاقية من حيث قدرة الصين على قيادة إيران لتغيير وجهها البشع والإرهابي، فذلك أقصى درجات الغباء السياسي والجهل بالتفكير الصيني بعيد المدى، فما يهم بكين تحقيق مصالحها الاقتصادية وتمدد نفوذها، وما يهمها أيضًا، بقاء الشيطان الإيراني في مواجهة واشنطن في عديد من الملفات، استنادًا على «دع الشخص الخطأ يفعل الصواب».

ما قادني لقول ذلك هو افتقاد إدارة جو بايدن، لترتيب الأولويات ومقومات عوامل الانضباط السياسي، إذ بدت الأوراق ضحلة القيمة منذ اليوم الأول على طاولة الرئيس، بدليل بداية عهده بمطالبة العالم الآخر بمزيد من الحريات، ضاربًا عرض الحائط بالتحركات الجسام التي جسدها التنين الصيني عبر الاتفاقية التي دخلها مع إيران، التي تعتمد شعار «الموت لأمريكا» في وضح النهار، وأصبحت اتفاقية إنقاذ وإعادة حياة لدولة مارقة وفق تصنيفات سياسية وليست عاطفية.

ما يُمكنني التساؤل عنه، هو كيف ستعمل واشنطن مع طهران الحليف الحديث للغول الصيني؟ وكيف ستواجه واشنطن المكتسبات السياسية المعنوية من الاتفاقية التي دخلتها إيران مع بكين بما في ذلك الفيتو الصيني في مجلس الأمن الدولي إذا ما اضطر إلى اللجوء له لأي مصلحة إيرانية؟

يُخالجني سؤالٌ لا يمُتُ للخبث بأي صلة، وهو هل سيتقبّل سيد البيت الأبيض الأمر فيما لو كانت المملكة العربية السعودية أو جمهورية مصر العربية، هي من أبرم تلك الاتفاقية مع الصين، وكيف ستكون ردود أفعال سيد دولة الحلم، ورمز الديمقراطية، وشرطي العالم.! الجواب واضح، لن يقبلها بالطبع، وسيتشيط بايدن وطاقم إدارته غضبًا وستمتلئ الدنيا ضجيجًا ومعارضة.

أعتقد وكما يبدو أن «مفهوم شرطي العالم»، قد لقي حتفه، قبل ولادة الشرطي، وأن الحلم الأمريكي لم يكُن في أساسه إلا شعارًا زائفًا وضعته الإدارات المتعاقبة مبدأً لتسويق المفاهيم الأمريكية، التي لا تملك الحد الأدنى من معايير الإنسانية الكريمة، ولم تعد تصلح لا في الزمان ولا المكان.

انتهى قولي.. وإلى كذبة جديدة.