يعد توفير البيانات الإحصائية وما يلحقها من تفاصيل عن المتغيرات ذات الصلة؛ من إحدى أهم الأساسيات التي تبنى عليها الاستراتيجيات والخطط لسياساتنا التنموية، إذ تكشف الأرقام عن مستوى المنجزات المحققة، كما تبرز حجم الإخفاقات اللاحقة بالقطاع المعني بالدراسة، وبما يتيح القدرة على التقييم والتقويم لتعزيز الإيجابيات، ويسهم في تصحيح السلبيات بما يخدم تحقيق أهدافنا التنموية.

تعكس إحصاءات سوق العمل مستوى الأداء لعدد من القطاعات الرئيسة، والتي بها يمكننا الوقوف على طبيعة السياسات المنفذة، وما يتبعها من إجراءات في فترة سابقة، والتي يعتمد عليها ما يتم تحديثه من سياسات وإجراءات، بناء على ما تبرزه الإحصاءات من نتائج رقمية، تلقي الضوء على واقع نظري يكاد يكون مبهما أو غامضا في تفاصيله وتأثيراته التابعة، وبذلك يمكن رصد طبيعة ونوع السياسات والإجراءات التي يجب الأخذ بها، في ضوء تلك البيانات الكاشفة، عن التحديات والمنجزات في آن واحد، والتي لا بد وأن توازيها في الحجم وتكافئها في المستوى.

تشير البيانات الإحصائية في الربع الأخير من عام 2020، إلى أننا ما زلنا نعيش التحديات التنموية التي ترصدها الإحصاءات بصفة دورية منذ سنوات، وعلى الرغم من وجود تحسن نسبي في بعض متغيراتها، فإن مجمل البيانات تؤكد أن سياسات سوق العمل والإجراءات المنتهجة فيه لا ترتقي في كفاءتها وجودتها إلى حجم التحديات ونوعيتها الحقيقية، وبما يشير إلى أن هناك غيابا في الرؤية الشفافة، وقصورا في المتابعة لإحصاءات وبيانات واقع سوق العمل القائم، بما يفرزه من نتائج حساسة، تنعكس تأثيراتها على تعطيل جهودنا التنموية في تحقيق أهداف توازيها في الاتجاه المأمول.

بملاحظة بيانات مسح القوى العاملة للربع الأخير من عام 2020، يمكننا رصد العديد من الملاحظات على سوق العمل، ومنها؛ نمو البطالة بين المواطنين، وانخفاض معدل التوظيف والتشغيل للمواطن/‏ة مقارنة بغير المواطن، وبعض من معوقات التوظيف وما يتصل به من متطلبات التدريب والتأهيل المطلوب، إضافة إلى ضعف التوطين الملحوظ في القطاع الخاص، والذي يستحوذ فيه غير المواطن على أكثر من %75 من الوظائف المتاحة، رغم جميع الشعارات والمبادرات التي تطلقها وزارة الموارد البشرية في ذلك الشأن.

تشير الإحصاءات إلى أن معدل مشاركة المواطن في سوق العمل ارتفع من 49% في الربع الثالث من عام 2020 إلى %51.2 في الربع الرابع من العام نفسه، بينما ارتفع ذات المعدل لغير المواطن في القوى العاملة من %73.8 إلى %74.5 في الربع الرابع، وذلك وعلى الرغم من انخفاض معدل البطالة إلى %12.6، لتقارب نسبتها في نفس الفترة من عام 2016 (%12.3)، وذلك بعد أن بلغت %15.4 في الربع الثاني من عام 2020.

ومن خلال رصد معدل البطالة بحسب العمر، يتبين أن معدل البطالة بين المواطنين للفئة العمرية الشابة من المتخرجين/‏ات، والتي تبحث عن عمل ولا تجده، يفوق بكثير معدلها بين غير المواطنين لنفس الفئة العمرية، إذ يبلغ معدلها بين المواطنين للفئة العمرية من 20 - 24 سنة %28 من جملة المتعطلين السعوديين، في حين يبلغ معدلها %16 عند غير السعوديين، كما تسجل معدل %23 للفئة العمرية من 25 - 29 سنة بين المواطنين، في حين أنها تنخفض إلى %6.3 عند غير المواطنين، وهكذا في الفئات العمرية اللاحقة والتي تسجل جميعها فروقا كبيرة بين مواطن وغير مواطن لصالح الأخير!

وتشير الإحصاءات من جانب آخر إلى أن هناك فجوة كبيرة كذلك بين المواطنين وغير المواطنين في معدل البطالة بحسب المؤهل التعليمي، إذ ترتفع النسبة عند المواطنين لمؤهل بكالوريوس إلى %17.4 من جملة المتعطلين المواطنين، في حين تنخفض عند غير المواطنين إلى %3 فقط، أما بالنسبة لمؤهل دبلوم بعد الثانوي، وهم خريجو الكليات التقنية والمجتمع وغيرها، فإن المواطنين يسجلون بطالة بنسبة %9، بينما لا تتعدى تلك النسبة %1.9 عند غير المواطنين، وعلى ذات النسق يبرز تميز غير المواطن في انخفاض نسبة البطالة في جميع المؤهلات العلمية.

وفي السياق ذاته تشير بيانات التأشيرات الصادرة لاستقدام عمالة وافدة، إلى أن هناك زيادة مهولة في عدد التأشيرات الصادرة للاستقدام، وذلك بالمقارنة بين الربعين الأخيرين، إذ ارتفع عدد التأشيرات الصادرة من وزارة الموارد البشرية إلى 328.999 تأشيرة في الربع الرابع، في حين أنها كانت 72.435 تأشيرة في الربع الثالث من عام 2020! في ظل وجود %78.7 من المتعطلين السعوديين الذين لم يسبق لهم العمل، وينتظرون فرصتهم في التوظيف، ومع وجود %92.2 مواطن لم يسبق لهم التدريب، بينما نستقدم غير المواطن بشهادات خبرة ومؤهل غير موثوق، استنادا إلى مكاتب تجارية في بلادهم، ولنتيح لهم فرصنا الوظيفية للتدريب المجاني، بينما يحرم منها المواطن حديث التخرج لأننا نطالبه بخبرة لا تقل عن ثلاث سنوات!

كثير من البيانات التفصيلية لسوق العمل وطبيعة توزيع القوى العاملة فيه؛ يدعوان إلى العجب والاستنكار لما يحدث فيه من اختلالات رهيبة؛ تسهم في تفاقم تحدياتنا الوطنية وتعميق آثارها التنموية؛ نتيجة لسياسات لا تتفق مع تلك التحديات القائمة، وعليه فإننا لا نتعجب من استمرار اختلالات سوق العمل رغم ما تعلنه الوزارة المعنية من مبادرات وبرامج لا نلمس إيجابياتها منذ سنوات؛ لأنها ما بين ضعيفة في بعضها وتفتقد إلى المتابعة، وما بين متناقضة في بعضها الآخر مع ما نعيشه من تحديات وما نأمله من إصلاحات.