لا يخفى على مسلم يتلو القرآن من حين إلى حين أن توحيد الله - عز وجل - أعظم ما أمر به في كتابه الكريم، وأن الشرك به سبحانه أعظم ما نهى عنه فيه.

استغرق ذلك من الذكر الحكيم الكثير من آياته بالأمر والنهي المباشرين مثل قوله تعالى: «فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ»، وقوله «وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ». وحين بين الله تعالى مجمل دعوات الأنبياء أخبر عز وجل أنها جاءت بالتوحيد، فقال: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ»، وبين تفصيلا أن ذلك دعوة كل نبي حين ذكر على التفصيل نوحا وهودا وصالحا وإبراهيم وشعيبا وموسى ويونس وعيسى، وغيرهم عليهم السلام، فدل ذلك على أن التوحيد ونبذ الشرك وأسبابه أعظم ما جاءت به دعوة الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، والمؤسف المثير للعجب أن هذا هو أعظم ما غفل علماء الإسلام من بعد القرن الثالث للهجرة التشديد عليه، حيث يجد المتابع تاريخ التأليف في الإسلام وسير العلماء أن العناية بالتزام التوحيد والتحذير من الشرك في جهود العلماء والولاة بالمكان الضعيف جدا فيما بعد القرن الثالث، وتأتي المفارقة في أن عددا من المذاهب البدعية، التي يصل بعضها إلى الشرك بالله تعالى شركا أكبر، رفعت شعار التلقب بالتوحيد، وسمت أتباعها «الموحدين»؛ فالمعتزلة الذين جاءوا بإنكار صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - سموا أنفسهم «أهل التوحيد والعدل»، ومحمد بن تومرت الذي جيش الناس لقتل أتباع المنهج السلفي، وسماهم «المجسمة»، وزعم أنهم أولى بالقتل من الكفار الأصليين، سمى جماعته «الموحدين»، لأنهم ينكرون صفات الله تعالى!، وجاء علي بن حمزة، الذي دعا إلى عبادة الملك العبيدي المتسمي بـ«الحاكم بأمر الله»، ليسمي دينه الجديد «دين التوحيد»!.

أما التوحيد الحق الذي جاء به الكتاب والسنة، وهو إفراد الله بالعبادة والخلوص من الشرك، فظل مغفولا عنه تحت وطأة الانشغال بالخلافات التي ابتدعها علماء الكلام في أسماء الله وصفاته والقضاء والقدر، ثم الانشغال بالفكر الباطني وما جره على الأمة من وبال، الأمر الذي جعل الشرك الأكبر ينتشر بين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تحت مسمى «تعظيم الصالحين» حتى أصبحت عبادة القبور سِمة عامة بين المسلمين لا ينكرها أحد، بل أصبح كثير من العلماء يُزينونها للناس، ويتأولون لها الآيات والأحاديث بتأويلات فاسدة حتى أصبحت الخرافة في أعين الناس من أركان الدين الركينة، وأصبح من يعلمون الحق من العلماء هيابين مخالفة الدهماء والسلاطين الذين كانت غفلة الناس وجهلهم تعجبهم وتقوي سلطانهم.

لم ينقذ الله الأمة إلا بظهور شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، الذي شجع الصامتين على قول الحق، ونَطَقَ بما يجب النطق به للحيلولة بين أعظم منكر وقعت فيه البشرية، وهو عبادة غير الله تعالى، من أن تلتبس بدين الإسلام الحق، ثم تكالبت قوى الخرافيين من حملة العلم وشيوخ البدع والسلاطين على دعوته حتى مات سجينا بعد عدد من المحن ابتلي بها، ثم تتابع تكالب تلك القوى على تلاميذه حتى رجع الصمت على المنكر ليسود بسبب هيمنته وانتصاره، إلى أن قيض الله تعالى للأمة الإسلامية جمعاء من يجدد لها أمر دينها، وهي الدولة السعودية في طورها الأول التي قامت على دعوة التوحيد التي نادى بها إمام الدعوة محمد بن عبدالوهاب، وإمام الدولة محمد بن سعود، والتي لا يخفى على منصف أثرها العظيم في اندحار البدع، وعودة الأمة إلى حقيقة دينها ونبذها الخرافة.

وكما تعودنا في تكالب قوى الشر على أهل الحق، لم تزل قوى الشر تتكالب على أتباع منهج السلف ودعاة التوحيد الصحيح، وكان من شبهاتهم التي يأتون بها، لتشويه أتباع منهج السلف، ما يأفكونه من أن السلفيين اعتنوا بـ«شرك القبور» ووقعوا في «شرك القصور»، وهم يعنون بذلك لمز السلفيين بما التزموا به من اتِّباع الكتاب والسنة، وشدتهم في طاعة ولاة الأمر وتحريم الخروج عليهم، فسول الشيطان لهؤلاء أن لا سبيل أعظم لتنفير عامة المسلمين ممن يدعوهم إلى التوحيد في عبادة ربهم إلا وصمهم إفكا وعدوانا، وعُلوا بعبادة السلاطين، وحاشاهم ذلك، رحم الله ميتهم وغفر لحيهم، ونصره ونَضَّر وجهه.

والحق أن وصف السلفيين بـ«شرك القصور» من الباطل الذي تأباه الحقيقة والعدل، ومن الظلم الذي لا يرضاه الله تعالى، وهو ديدن أهل البدع أيا كان موضِعُ ابتداعهم، وليس قولهم هذا إلا انتصارا للشرك والخرافة لتعود وتُخيم على الأمة كما كانت قبل انتشار دعوة السلف، ويرجع «القبر» و«خادم الضريح» و«شيخ الطريقة» وأضغاث الأحلام، التي يسمونها «منامات» و«رؤى»، هي المتحكمة في حياة المسلم، أو انتصارا للفوضى والاقتتال وذهاب الأنفس والأموال والأعراض التي باتت الأمة في أَمَرِّ الشكوى منها، والمنصف هو من يقدر اليوم ما كان يقرره السلفيون حق قدره.

واستكمالا لرد هذه الشبهة أقرر التالي:

أولا: إن القول بطاعة السلاطين ليس قولا اجتهاديا يجوز خلافه، بل هو نص قطعي الدلالة والثبوت في كتاب الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}، ومع وضوح هذه الآية فهي مفسرة في سنة رسوله بأحاديث كثيرة بصحيحي «البخاري» و«مسلم»، ليس هنا موضع سياقها، وكلها تؤكد أن مَن تجب طاعته هو كل من ولي أمر المسلمين برضا منهم أو تغلب عليهم، وكان عادلا أو ظالما صالحا أو فاسقا، وكل ذلك شريطة ألا يطاع في معصية الله، فإن أمرك أن تعصي الله فلا تعصه، ولا تنزع يدك من الطاعة العامة في غير معصية.

ثانيا: إن هذا القول ليس حكرا على السلفيين، بل يقول به الأشعرية والصوفية، والنقول عنهم في ذلك كثيرة بكتب العقائد، ولم يخالف ذلك إلا الخوارج والمعتزلة، ولهذا فكل من يدعو للخروج على الحكام أو يُجَرِّيءُ عليه ففيه خصلة من الخوارج والمعتزلة حتى يدعها، بل حتى الإخوان المسلمون حينما حكموا في مصر أذاعوا أحاديث وآيات الطاعة، وخرج داعيتهم الخارجي وجدي غنيم يردد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أتاكُمْ وأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ علَى رَجُلٍ واحِدٍ، يُرِيدُ أنْ يَشُقَّ عَصاكُمْ، أوْ يُفَرِّقَ جَماعَتَكُمْ، فاقْتُلُوهُ»، فهم يأخذون بأحاديث الطاعة إذا حكموا، ويتأولونها إذا حكم غيرهم، وهذا ما لا يفعله السلفيون الذين يأمرون بالطاعة وإن ظُلِمُوا وأُخذت حقوقهم، كما حصل مع الإمام أحمد وابن تيمية وسائر علماء السلفية قديما وحديثا.

ثالثا: طاعة الحكام إذا فعلها المسلم في غير معصية، وقصد بذلك التسليم لأمر الله تعالى، وجعل الشرع مقدما على هواه فهي عبادة وامتثال لله تعالى يؤجر عليها، وتسمية ذلك «شركا» هو الشرك، لأن وصف الممتثل لأمر الله المطيع له بالشرك تكذيب لله وطاعة للهوى.

رابعا: لم يكن أحد من علماء المنهج السلفي أداة في يد السلطان يَخدع به الجماهير كما هو حال غيرهم من علماء الفرق الذين تستخدمهم بعض القوى لـ«أسلمة العلمانية»، وآخرين يُستخدمون لتشويه صورة الإسلام ورميه بالتكفير والوحشية، وفريق ثالث يستخدمون لتغييب الجماهير المسلمة، وإبعادها باسم الدين عن حقيقة الدين، وإنما كانوا يأمرون بطاعة السلاطين تقوى لله وامتثالا لأمره، فأحمد بن حنبل يدعو للسلطان وهو يجلده، وابن تيمية يأمر بطاعة السلطان وهو يموت في سجنه، وابن أبي العز الحنفي يبين حرمة الخروج على الحاكم وقد فصله من وظائفه وسلب حقوقه من بيت المال والأوقاف، حتى جاءت الدولة السعودية التي رعت علماء السلفية وأعلت مكانتهم، ومع هذا لا يقول أحد منهم إلا بالطاعة في غير معصية ولا يزيدون عليها، تماهيا مع منكر أو استحلالا لمُحَرَّم.

العلماء السلفيون اليوم في غير السعودية يُفصلون من إمامة المساجد، ويضيق عليهم في الجامعات، ويحرمون من المناصب، ولم يتغير قولهم في وجوب الطاعة وحرمة الخروج، فأين منهم عبادة القصور التي يزعمها الأفاكون؟!.

والنتيجة التي أريد الوصول إليها: إن طاعة الحاكم في غير معصية ليست إعانة على الاستبداد، كما يزعم أفراخ الخوارج والمعتزلة، بل أمر بالانصراف إلى دعوة الناس إلى التوحيد والمعروف والخير، لأن بناء الأمة بناء إيمانيا أخلاقيا قويا يكفل ترسيخ العدل والخير في الدولة ومؤسساتها، أما الانشغال بالخروج والتغيير السياسي، فإنه لا يصنع إلا الافتراق والفوضى والتناحر، وهذا ما تحدث عنه أهل العلم كثيرا، ولكن نزعة الخروج تحول بين الحق وقلوب أصحابها، فيأبون إلا نفورا، لذلك عَمُوا وصَمُّوا عن التدبر في آيات القرآن التي ذَكَرَت السياسة في آية واحدة وهي آية الأمراء (وأطيعوا الله..)، وذَكَرَت التوحيد في ثُلُث آيات القرآن، فهجروا ثلث القرآن الداعي إلى التوحيد، وتأولوا الآية الوحيدة في السياسة، أما السلفيون فعملوا بآيات التوحيد ودعوا إليها، وعملوا بحقيقة آية السياسة ولم يتأولوها، فلله درهم.