تتخذ فكرة المصلحة كمصطلح فقهي وأكاديمي وتشريعي، مساحة كبيرة في مجالات علمية وعملية كثيرة. ففكرة المصلحة تكون أساسية عند دراسة الفقه، ذلك أن كثيراً من أبوابه قائمة على المصلحة، وخصوصاً في المعاملات مثل البيوع والإجارات والخيارات في العقود، و في الأحوال الشخصية مثل أبواب الطلاق والنكاح والنفقة، وأبواب التعامل مع الآخر، فيربط الفقهاء والأصوليون والتشريعيون بين الفعل وتحقق المصلحة، وهذا الأمر واضح لمن كانت له دراية بكتب الفقهاء والأصوليين في جميع المذاهب، والفقه التشريعي القانوني سواءً المدني أم التجاري أم الدستوري. فكرة المصلحة داخلة بعمق في دراسات علم أصول الفقه، خصوصاً في أبواب الاجتهاد والقياس، بل إن الإمام الغزالي صنف درة من درر علم الأصول والاجتهاد والقياس، وهو كتاب «شفاء الغليل في بيان الشبه والمخَيل ومسالك التعليل» الذي من قرأه لا يمله بل سيُدمن طالب العلم، النظر فيه والتعجب من كيفية تصنيفه، وترتيبه وإيراد الأمثلة المتناسقة والمترابطة بين أبوابه ومسائله، و كيف استوعب عقل الإمام الغزالي تلك المسائل، ونظمها وكَيَّفَها وأورد عليها الأمثلة والأدلة، فهو كتاب علمي رصين في بحث القياس والمناسبات بين العلل، وما لا يُعتبر علة، وما لا يرتقي لئن يكون علة ومناسبة للحكم. و يشتمل مصنف الغزالي على كيفية الاجتهاد في تحقيق المناطات في الوقائع، وهي حقيقة الفتوى لتصور النوازل، وقد كان لكثير من فقهاء المالكية والحنابلة كبير عناية، بضبط المصلحة واختلافها ومعارضتها مع النص، بسبب أن من الإشكاليات الفقهية والأصولية والفكرية والفلسفية، إشكالية النص والمصلحة وكيفية التنسيق بينهما، وفك شفرة التعارض إذا ما تواجها في ساحات الفكر والفقه والتشريع، فهذه المجالات الثلاثة هي التي تتفاعل فيها المواجهة بين النص والمصلحة، وهما الوقود الحقيقي لكثير من المعارك الفقهية والأصولية والفلسفية، ثم خرجت في وقتنا المعاصر المعارك الفكرية، بين التيارات المدنية من علمانية وليبرالية، والتيارات ذات الطابع والصبغة الدينية. وفي ظني أن من يضبط كيفية التقديم والتأخير، والتنسيق بين النص والمصلحة من خلال أصول علمية، وفهم حقيقي لأبواب ومقاصد الشريعة، وتمكن من فهم موارد القياس وضبط علله ومناسباته وقوادحه، سيُحقق لمتناثرات مسائل واقعنا المعاصرالمعقدة، تسهيل الفهم الحقيقي للتصرفات والحوادث المتتالية، في وقتنا الذي أتسم بالسرعة والكثرة لتعدد مسائله وتعقدها وتناقضها. إن فهم واقع الحادثة فهماً عميقاً واستيعاب الأحوال والظروف، هو العامل الحقيقي لدى المفتي والعالم وطالب العلم، في كيفية تقديم المصلحة على النص، حيث إن كثيراً من الفهوم التي تتسم بالطابع الديني، كانت ولا تزال متأثرةً بالشدة والتطرف في إنزال الأحكام، وذلك أن أصحاب تلك الفهوم يتخيلون أنه الدين الحقيقي، وليس في مخيلتها وتصوراتها الذهنية أنه من الممكن ترك العمل بالنص، وتغليب جوانب المصالح، تفادياً لعواقب كبرى تفوق تطبيق النص، وقد عاصرنا كثيراً من الفتاوى التي كانت معيقةً لحركة تطور مجتمعنا، وكانت تُلح وتصر إصراراً غير مبرر، على أن تتصف مسيرتها بالتضييق على أفراد مجتمعنا، وذلك بسبب تجاهل فكرة تقديم المصلحة على النص، والأمثلة كثيرة جداً، منها ما تتعلق بالمرأة، ومنها ما تتعلق بالمعاملات المصرفية، والعمل في البنوك التجارية، وقد أطرحت وتناست ونزعت من مخيلتها أن هذه الفكرة، كان معمولاً بها في كثير من عصور العالم الإسلامي، سواءً كان ذلك تقريراً من قبل علماء الفقه والأصول، كما هو متوارد في كتبهم النقل عن الإمام الطوفي في تقديمه المصلحة على النص، أو كانت فكرة تقديم المصلحة على النص فتوى عملية، كما ذكر الإمام الشوكاني في ترجمة غازان بن آرغون معز الدين سلطان التتار أنه «لما أسلم قيل له إِن دين الإِسلام يحرم نكاح نساء الآباء، وقد كان استضاف نساء أبِيه إلى نسائه وكانت أحبهن إليه خاتون وهي أكبر نساء أبِيه فهم

«أي أراد ورغب» أن يرتد عن الإِسلام، فقال له بعض خواصه إن أباك كان كافرًا ولم تكن خاتون معه في عقد صحيح، إنما كان مسافحاً بها فاعقد أنت عليها فإنها تحل لك «أي يجوز لك نكاحها شرعاً» ففعل ولولا ذلك لارتد عن الإِسلام، واستُحسن ذلك من الذي أفتاه به لهذه المصلحة «أي أن المفتي قد قدم المصلحة الكبرى على النص القطعي عند فقهاء كُثر، في أن زوجة الأب تحرم على التأبيد على أبناء الأب» بل هو حسن ولو كان تحته ألف امرأة على سفاح، فإن مثل هذا السلطان المتولي على أكثر بِلاد الإِسلام في إسلامه من المصلحة، ما يسوغ ما هو أكبر من ذلك، حيث يُؤدى التحريج عليه «أي إعطاء الفتوى بتحريم زوجة أبيه عليه» والمشي معه على أمر الحق إلى ردته «أي تركه للإسلام بالكلية، بعدما أسلم وكان نصيراً وعوناً للمسلمين» فرحم الله ذلك المفتي، الذي بلا شك حقق المقاصد الحقيقية للشريعة الإسلامية، بموازنته بين النص القطعي والمصلحة الكبرى، التي هي أشد قطعية من النص الذي يُريد الفقيه أن يُنزله على هذه الواقعة الخاصة، بل إنه في نظري أن هذه المصلحة الكبرى، هي من متعلقات النص القطعي المخالف لها، ذلك أن كل نص له مساحة يدور في فلكها، وتُحيط بهذا النص دوائر المصالح والمفاسد بمختلف درجاتها، فإذا اتضح أن هناك مصلحة كبرى تدور في فلك النص فإن هذا النص يدعوها حتى تكون حاكمة على هذه الواقعة، التي هي بحاجة ماسة وقطعية كي تتماهي مع المقاصد الكلية والكبرى للشريعة الإسلامية. وفي عصرنا الحاضر وخصوصاً في وقت الأزمات، نحن بحاجة ماسة إلى مثل هذه الاجتهادات، في ظل جائحة كورونا، كفتوى جواز الصلاة وراء المذياع أو التليفزيون كما أفتى بذلك عالم من علماء المغرب. لا شك أن هذه فتوى متسقة مع حقيقة الأزمة العالمية، التي شهدها كل العالم، ومن لا يزال في تعنته وتشدده في طرد الفتوى المتشددة في الحالات العادية، فيجعلها كذلك في حالات الضرورة والحاجة الملحة، فإذا هذا التيارلا يؤتى «إلا عن حَــصَــرٍ وعِــيٍّ»، فلا تُجدي معه لا مناظرة ولا محاولة إقناع، بل إن تدخل السلطة في ردع مثل هذا التيار المتطرف في فهمه، لكيفية التعامل مع المستجدات المعاصرة، لهو المصلحة الحقيقية الكبرى، التي سوف تكون هي المحرك الحقيقي لإبداعات أفراد مجتمعنا، الذي تم قسره وتحجيمه بخيالات وتصورات ذاتية، لكثير ممن كان يتصدى لقيادة مجتمعاتنا. فحتى تستقيم مسيرتنا نحو الرقي والتقدم والتطور والتنمية، فإن هناك عوامل لابد من توافرها، ومسارات يتوجب على المثقفين والمفكرين لدينا أن يعوا حقيقة المرحلة، وتوضيح كل ما كان معيقاً لمسيرة مجتمعاتنا، وفك شفرة تلك المسارات الفكرية، التي كانت ولا تزال تقف حاجزاً أمام أفراد مجتمعنا، من حقيقة الفهم الحقيقي والصحيح لمقاصد الشريعة الإسلامية وخــفــايا جـزئيـاتها، والأمـر كما قـال الـجويـنـي «وَمَسَاقُهُ رَدُّ الأمر إلى عقول العقلاء، وإحكام الحكماء». فيجب وزن المصلحة بميزان الشرع، وضبطها بمعياره وتأصيلها تأصيلا محكما، وحصر قضاياها بمحكمات الشرع، ولا يقوم بذلك إلا فقيه النفس وصافي الذهن، ومتمكن في فقه مقاصد الشريعة ومعرفة جزئياتها، وهذا الميزان تقوده قاعدة مهمة قررها الطوفي وهي «إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع، لأن الأقوى من الأقوى أقوى»، ويعلل ذلك رحمة الله عليه بأن المصلحة هي السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع، وبحسب الشرع هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادةً أو عادةً.