ثار جماعة القرّاء على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بحجة أنه «غيّر وبدّل»، وحاصروا «يثرب» ودار الخليفة حصارا انتهى بمقتله، وسط صمت غريب من سكان «يثرب»، وكان ذلك بداية ما يحب المؤرخون العرب تسميته «الفتنة»، وهي تسمية ذات غلالة دينية، تخفي الرغبة في عدم مناقشة الحدث مناقشة علمية تاريخية، ووضعه في إطاره السياسي المعقول.

سيطر الثوار على «يثرب» وحكموها، وصلّوا بالناس سبعة أيام انتهت بمبايعة عليّ - رضي الله عنه - برغبة ورعاية الثوار.

هؤلاء الثوار القادمون من العراق ومصر كانوا معروفين باسم «القرّاء»، وهي تسمية تساوي «رجال الدين» في عصرنا الحاضر. قبل حضورهم لـ«يثرب» كانوا أصحاب حظوة في مجالس الولاة، وقد تسببوا في مضايقات الولاة تحت مسمى النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الولاة باسم الدين بصفتهم حفظة القرآن الكريم والمسؤولين عن سريانه في سلوك الحاكم والمواطنين، وهذا ما جعل الولاة يشتكونهم للخليفة عثمان أكثر من مرة.

دخل الخليفة معهم في مفاوضات فشلت بسبب تعنتهم، لدرجة أنهم طردوا الوالي الذي عينه الخليفة على «الكوفة» ونصبوا مكانه واليا آخر، ثم تسارعت الأمور وتنادوا للثورة على عثمان نفسه، وحضر منهم 1500 ثائر من مصر والعراق، وضربوا حصارهم على «يثرب» وحدث ما حدث.

في بيعة عليّ لم تكن الأمور واضحة، إذ سرعان ما انسحب منها الزبير وطلحة - رضي الله عنهما - وخرجا مع عائشة - رضي الله عنها - إلى البصرة، ورفضها معاوية في الشام. ولم يكن أهل يثرب متحمسين لهذه الخلافات القرشية، كل ذلك جعل عليّا يخرج في نحو 1000 رجل إلى «الكوفة»، معقل أنشط القرّاء الثوار، معتمدا على «شبه التحالف» الذي نشأ بينه وبينهم إثر مقتل عثمان.

قبل وصوله لـ«الكوفة» عسكر خارج البصرة وهناك وافاه جيشه القادم من حاضنة الثوار (الكوفة)، ليخوضوا معركتهم مع «الناكثين»، وهي التسمية القرآنية التي أطلقها القرّاء الثوار على طلحة والزبير وعائشة، معتمدين على الآية «وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ»، وهي المعركة التي انتهت بمقتل الزبير وطلحة، وعودة «عائشة» إلى «يثرب».

ثم اتجه عليّ وجيشه إلى «صفّين»، لقتال «القاسطين»، وهي التسمية التي أطلقها القرّاء الثوار على معاوية وأصحابه، معتمدين على الآية «وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا».

في الوقت الذي كان عليّ يقاتل من أجل توحيد الناس تحت سلطته، وهو غرض سياسي طبيعي، كان هؤلاء القرّاء الثوار يقاتلون من أجل تطبيق رؤيتهم للدين، أي من أجل توحيد الناس تحت سلطتهم باسم الدين، وهو ما أدي إلى صدام بينهم وبين عليّ نفسه حينما قبل بمبدأ التحكيم السياسي بينه وبين معاوية، الأمر الذي رأوه تخاذلا منه وتفريطا في الدين، كما يفهمون، إذ يجب، عندهم، قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله (= أمرهم)، فتقاتلوا معه في «النهروان»، ثم اغتالوه لاحقا، وعيّنوا خليفة منهم، واصطدموا مع الدولة الأموية والعباسية حتى خمد ذكرهم، وسيعرفون في التاريخ باسم «المارقين»، وهي تسمية دينية أطلقها عليهم خصومهم، معتمدين على الحديث المنسوب للنبي عليه الصلاة والسلام: «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلَامِ يقولونَ مِن خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فإنَّ في قَتْلِهِمْ أَجْرًا»، وسيعرفون أيضا باسم «الخوارج»، وهي تسمية دينية تعني الخروج من الدين أو الخروج من الجماعة أو الخروج على الحاكم.

إن ثورة القرّاء على عثمان كانت، بوعي أو دون وعي، أول صدام بين الدين والسياسة في تاريخ الإسلام، في تجربة دولة ناشئة تفتقر لأبسط مقومات الدولة، وهي نظام حكم يعقد بين الحاكم والمحكوم، وينظم انتقال السلطة بين الحكام، وسيستمر هذا الصدام الدموي السياسي تحت عناوين دينية من كل الأطراف حتى اليوم!.

في أفغانستان تغلف التحرر الوطني من الاتحاد السوفيتي بغلاف ديني من أجل التحشيد الإسلامي للمناصرة، وحين خرج السوفيات من أفغانستان تقاتل الأفغانيون بين بعضهم باسم الدين أو «لتحكيم شرع الله»، للحصول على السلطة وما زالوا.

في هذا القتال نشأت حركة «القاعدة»، وغايتها إقامة دولة الخلافة الإسلامية، وصار «بن لادن» ثم «الظواهري» يعينون من، مخابئهم، ولاة على كل بلد عربي!.

في العراق أعلن أبو مصعب الزرقاوي هدفه في إقامة دولة الخلافة، وبعد مقتله أعلن أبو بكر البغدادي نفسه خليفة للمسلمين في مسجد الموصل، منشقا عن دولة «القاعدة»، وظل من مخبأ إلى مخبأ حتى قتل.

من 1400 سنة لم يفهم غالبية العرب والمسلمين أن الدين شيء والسياسة شيء، أو أنهم، وهذا أغلب الظن، لا يريدون أن يفهموا ذلك، لأن كل الأطراف يريدون اللعب بالورقة الدينية لأنها ما زالت هي الورقة الرابحة للتحشيد، وهو ما تفعله «داعش» وخصومها، ويفعله الإخوان المسلمون وخصومهم.

«تحكيم شرع الله» «الإسلام هو الحل» «دولة الخلافة» هي مفاهيم فضفاضة غايتها تحكيم شرع الله كما نفهمه نحن، والإسلام هو الحل كما نريده نحن، ودولة الخلافة نتزعمها نحن. هذه العبارات تقوم على الاستيلاء على الدين، وسحبه من الحاكم (كما فعلوا مع عثمان) أو سحبه من المجتمع والدولة (كما فعل سيد قطب - الإخوان) أو سحبه من الدولة (كما تفعل القاعدة) ثم التحشيد لذلك، لدرجة تحشيد الابن ضد أسرته كما حصل في بلادنا في الماضي القريب.

هؤلاء لا يفهمون أن الدين مسألة فردية بصرف النظر عن دين أو أديان المجتمع أو طوائف الشعب، ولا يفهمون أن الحكم إنما يقوم على رعاية مصالح الناس.

لنا أن نتخيل ماذا لو أن الملك عبدالعزيز - رحمه الله - استجاب لرأي أولئك الذين طالبوه بمواصلة القتال «لنشر الإسلام» في العراق؟!. ماذا لو أن الدولة سكتت عن حركة «جهيمان» في الحرم التي قامت على أسباب دينية تراها وجيهة من وجهة نظرها؟. ماذا لو أن الدولة سكتت عن محاربة التكفيريين باسم الدين في العقد الماضي؟. ماذا لو أن الدولة لم تفتح البنوك أو لم تسمح بتعليم المرأة أو بحصولها على هوية وطنية أو عملها في مجالات عمل جديدة لها؟ أو لم تضع أنظمة تقاضي تكفل للمرأة حقوقا كانت غائبة باسم العادة الدينية؟.

الخطوة الأولى التي يمنحها الإسلام السياسي لنفسه هي الاستحواذ على الدين، وهي خطوة يترتب عليها تكفير الآخر الذي يعد المبرر الرئيسي للقتال واستحلال دماء الناس. والتكفير قنبلة عنقودية لا تتوقف، حصل هذا كما رأينا مع الثوار على عثمان حين كفروا خصومهم، ثم كفروا القائد الذي بايعوه وقتلوه، ثم كفروا بعضهم وتقاتلوا، وهذا أيضا ما حصل مع «الإخوان» ومن انشق عنهم، ومع «القاعدة» ومن انشق عنها، وحتى في «داعش» التي انشق فيها «الجولاني» عن «البغدادي»!.

ما يسميه المؤرخون اليوم «الفتنة» هي اصطدامات الإسلام السياسي بالدولة في أيامها الأولى، وسموها «الفتنة» رغبة منهم في إضفاء غموض وأقدار غير مفهومة أرادها الله تعالى ولا داع لمناقشتها، وما زالت التسمية تسري حتى اليوم في كل حدث يفضل أصحابه عدم مناقشته، لفهمه وأخذ العبرة منه.

الإسلام هو دين إلهي فردي للعالمين، ويمكن للمرء أن يكون مسلما في أي بلد كان يتعاون مع مواطنيه على البر والتقوى، أما الدولة، أيّ دولة، فهي جهاز دنيوي لرعاية مصالح الناس بصرف النظر عن أديانهم وطوائفهم.

ما لم يعِ الناس مصالحهم الدينية والدنيوية، فسيظل الإسلام السياسي عامل تدمير مستمر للمجتمعات والمقدرات والحياة الكريمة.