في المملكة العربية السعودية والخليج، قام ما يُسمى بـ«الصحوة» على أربع ركائز يعي الكثير تأثيراتها وارتداداتها على المنطقة إلى هذا اليوم. حتى وإن حاول بعض رموز تلك الحركة حرف بوصلة الخط العام الذي سارت عليه، والابتعاد عن التقاطعات المذهبية التي قامت على أساسها حركتهم «السياسية وليست الدينية» على أساس منفرد، إلا أن ذلك ضرب من ضروب الخيال، إذ أنه قولاً واحداً؛ فإن الصحوة في منطقة الخليج قامت على صدى صوت الثورة الخمينية في إيران بعد اسقاط نظام الشاه، كقاعدة أساسية ورافعه لها، ومن يرى غير ذلك فهو إما جاهل أو يعمد لتزييف التاريخ الحقيقي للمنطقة.

ويضاف لتلك الثورة المقيتة؛ عملية احتلال أفغانستان من قبل الاتحاد السوفييتي لمدة عشر سنوات من عام 1979 إلى 1989، التي خلفت حرباً طاحنة قام على رُكامها تيار ديني، كانت مهمته طرد السوفييت من الأراضي الأفغانية وحسب، إلا أنه ارتد مع الوقت بشكل طردي وعكسي على دول المنبع التي خرج منها أولئك المقاتلين وتحولوا إلى متطرفين مع الوقت.

ومن ثم جاءت حركة جهيمان العتيبي واحتلال الحرم المكي عام 1979 ميلادية، وهي الحركة التي كشفت عن جماعات أشبه بالذئاب «المُندسة» بين العامة، وفي أوساط المجتمع ومفاصل الدولة، وكان لها الدور الذي لا يُمكن الاستهانة به في كشف وجوه قبيحة كانت تعيش بيننا، بعد أن ساندت تلك الحركة.

ولا يُمكن التغافل عن الحرب الإيرانية العراقية التي دامت ثمانِ سنوات، على مشارف حدودية متاخمة لدول الخليج، إذ كان لتلك الحرب الدور الكبير في حشد الجموع ربما على أساسٍ سياسي، سُرعان ما تحولت تشكيلها على أساسٍ أيديولوجي، عانت منه المنطقة في أزمنةٍ لاحقه.

أتصور أن المسببات والعوامل السياسية التي ولدت على أساساتها «الصحوة» في المملكة والخليج، والتي دامت أكثر من أربعين عامًا، ونشأ على قواعدها عدة أجيال؛ لا يُمكن أن تتبخر لمجرد مواجهة رمزٍ من رموزها هنا أو هناك.

وإن كان ذهاب الرموز إلى الجحيم وغياهب الجُب، فلا يُمكن لعاقل أن يتجاهل ما يمكن تسميته بـ«التابعون»؛ والتابعون عنوان عريض لمن يمكن وصفه بـ«المؤيد العلني»، و«المؤيد الصامت»، و«المتحرك» و«المتعاطف العلني»، و«المتعاطف الصامت» و«الحركي»، ناهيك عن الرافض لكل شيء يرتبط بمشروع الاعتدال الطبيعي؛ لمجرد الرفض من قبل العنجهية أو الجهل.

صحيح أن قواعد اللعبة اختلفت جذريًا للحركة التي حتى وإن بدت ظاهرياً أنها خامدة، إلا بعض المؤشرات تؤكد أنها لا تزال تنبض بالحياة عبر ما يُمكن وصفه بـ«المخلفّات»، وذا يتأكد من خلال مسلك بعض من يُعرفون بـ«نجوم السوشال ميديا»، ويتضح على منهجيتهم ركوب الموجة السابقة بشكل عصري وحديث، بناءً على مواكبة التطورات التي طرأت على العالم، حاملين لواء الترويج للأسطوانة المشروخة التي مضى عليها أكثر من أربعة عقود، والتي في الغالب ما تتمحور حول المرأة.

ربما يكون ذلك من باب التعاطف أو السذاجة أو الجهل، لكني أجد أن في ذلك مكمنٌ كبير لخطرٍ مُحدق، نظير الجماهيرية التي يتمتع بها أولئك المرضى.

سأسهب بشرح ذلك فيما يلي؛ لكني أريد العودة بالتاريخ الأيديولوجي والحركي لـ«الصحوة» فيما مضى، وأذكّر نفسي وغيري بالآلية التي كانت تُنتهج لاستقطاب متعاطفٍ أو مؤيد «جُلهم جهله»، وذلك يقودني للعودة إلى الوراء سنين قد تتجاوز الثلاثين عامًا؛ على رغم صغر سني!

إذ أني كُنت أسمع وأُردد أنا وكثير من الأصدقاء في ذلك الوقت أناشيد إسلامية، جُلها يقوم على الحزن والغربة وادعاء المظلومية! وأخرى تتمحور حول مرابط الخيل و«سليل السيوف.. والصواري».

وذلك يدفعني لربط الأمر بتعريف «الرومانتيكية» من قبل المؤرخ الفرنسي غايتان بيكون، الذي يرى «أن تلك الحالة شعارٌ لكل شيء مسموحٌ به.

فالمدرسة الرومانتيكية دعت للتحرر من كل القيود، وهي مدرسة للبوح والاعتراف بكل ما يقلق الإنسان ويخشى الحديث عنه أو الخوض به، كمواضيع الحرية في المجتمعات والدين والوجود والعدم».

وهنا مربط الفرس، إذ أن «الصحوة» انتهجت تلك المدرسة أو المنهج، وفصّلت البوح والاعتراف والحرية على مقاسها، استغلالًا للبكائيات والأحزان؛ وأخذت بإقناع طفلٍ مثلي في أقصى شرق المملكة، لأن يُردد «ليس الغريبُ غريب الشامِ واليمنِ.. إن الغريبَ غريبُ الكفن واللحد».!

أعود للحديث عن الشكل الصحوي العصري والحديث الذي كان منطلق فكرة كتابة هذا المقال. وأقول إن تغييب سلمان العودة؛ وعوض القرني؛ وسفر الحوالي؛ وبقية الرموز «زادني اللهم بهم جهلا»، لن يكون نهاية المطاف، ما إذا أجرينا فرزًا على بعض الأسماء المتصدرة لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي بكل أسف أغلب جمهورها من صغار السن والأحداث.

ومن هذا الباب عليّ الاستدلال والتذكير بأحد ممن يصفون أنفسهم «نُشطاء» تارةً، و«إعلاميون» تارةً أخرى دون معرفة من المُخول بمنحه هذا اللقب، الذي قال يومًا ما أمام الله وخلقه «إذا كنت رجلًا تعمل مع امرأة في وضع اختلاط دون أن تتأثر غريزيًا.. فالسلام على رجولتك».!

وفي تلك الرسالة خطورة قصوى تتمحور حول أمرين:

الأول؛ محاولة عرقلة مشروع الدولة النهضوي، إذ لا يُمكن أن يكون حديث ذلك الإنسان فكرةً اعتباطية ما لم تكُن ذات جذور ظلامية في داخل ذلك المعتوه، الذي يتبعه أكثر من 14 مليون إنسان.

والثاني؛ دعوة للتحرش لإثبات الرجولة يراها ذاك الجاهل.

وأحمق آخر يفوق متابعوه على تطبيق «سناب شات» أكثر من 3 ملايين متابع، جمعهم بعد أن أثبت تفاهته وفراغه خلال تكرار طلبه لنادلٍ أجنبي بأحد مقاهي الرياض، ردد عليه كثيرًا «سمول كابتشينو» ودخل عالم الشهرة بتلك السخافة، قال يومًا هو الآخر «تسقط المرأة من نظري إذا دخنت أو عسلت، وإذا عملت في مجال عمل مختلط مع الرجال».!

إن الحالة التي يُجسدها هؤلاء الفارغون والتي تعتمد على «خبث التمرير ما بين السطور»؛ هي إحدى صور الخطر المُمتد من رمزية بعض المتطرفين فكريًا، ممن كانوا سببًا بتشظي وانقسام المجتمع إلى فسطاطين، بين مؤيدٍ ومعارض للنهج المتمترس وراء ستار الدين الذي كرسوا شعاراته على مدى عقود ماضية لخدمة مشروعهم الأيديولوجي والسياسي، مصحوبًا بنظام التفاهة وتغييب العقل الذي عملت على تبنيه تيارات الإسلام السياسي في المنطقة بالمُجمل، على حساب مواجهة تطور العقل البشري والعلم والمعرفة، وهو النظام ذاته الذي يحتفظ ببقايا تلك التيارات، وأنتج نجوم «السخافة» في العالم الافتراضي، يُضافون إلى نجوم «السخافة» في الواقع.

انتحرت فكرتي هنا، بينما لا يزال فكرهم على قيد الحياة.

أعانني وأعانكم الله.