في كتابه أساس البلاغة يعرف الزمخشري الشعوبيين بقوله: «هم الذين يصغرون شأن العرب ولا يرون لهم فضلًا على غيرهم» والشعوبية التي يقدمها الزمخشري معروفة الدوافع والخلفيات التاريخية والأبعاد السياسية والاجتماعية. فشعوبية القدماء التي نشطت في العصر العباسي لها حضارة موروثة ومكانة مرموقة قديمة حلت محلها حضارة الإسلام الجديدة، لذا كانت النزعة الشعوبية القديمة تأخذ مظهرًا من مظاهر البحث عن الذات عند الأمم المغلوبة.

بعد قدوم بني العباس واستلامهم زمام الحكم وإتاحتهم الفرصة للموالي، زاد نفوذ العنصر الأجنبي وبدأت مع زيادة نفوذهم إعلان آرائهم المنحازة دون مواربة ووصل بهم الحال إلى تحقير شأن العرب والتقليل من شأنهم، والسخرية من مظاهر الحياة العربية وعاداتها وتقاليدها من ملبس ومشرب ومأكل، والتهجم على مجمل ما تتضمنه تلك الحياة من قيم ومُثُل وتقاليد وقد نالت حياة الجاهلية النصيب الأكبر في تلك المعركة الشعوبية، وتحديدا ما تميز به الجاهليون من الأدب والشعر.

هذا الشكل من الصراع الثقافي نجد له ما يبرره, فالثقافة المغلوبة التي تعيش حالة مقاومة وممانعة كرد فعل طبيعي لمنع الفناء في ثقافة الأجنبي، أو للمطالبة بالمساواة بين القوميات المتعددة داخل نسيج المجتمع، ولكن هناك شكل حديث للشعوبية نشهده اليوم في الأوساط الثقافية والأكاديمية قد لا نجد له تفسيرات منطقية نظرًا لأنه ينبع من نفس الثقافة ومن نفس القومية. وإن كانت الشعوبية القديمة قد انصبت على احتقار قومية معينة فإن الشعوبية الحديثة قد انصبت على احتقار العقليات والأمزجة، بالتالي احتقار ما تنتجه من آداب وفنون وعادات وتقاليد، فلكل أمة حسب زعمهم «عقلية خاصة» تتحكم في سلوكها وعقلها ونتاجها الفكري والأدبي.

وبسبب هذه العقلية الخاصة فإن سلوكيات العنف والتطرف متأصلة في عقلية العرب وثقافتهم -كما يزعم الشعوبيون الجدد- فأخذوا يربطون بين تراث العرب وبين أحداث الإرهاب وأعمال العنف في العصر الحديث، بل وربط قصائد الشعراء العرب القدماء بأعمال العنف ضد الطفولة وتهميش المرأة في المجتمعات الحديثة، لذا أشاعوا فكرة رفض الماضي ورفض كتب التراث وآدابه بل ورفض الاعتزاز به وقطع كل الصلات الثقافية معه.

ولو أخذنا شعوبية أبي نواس كنموذج شهير للشعوبية، بما تميزت به قصائده من نزعة شعوبية واضحة أخذت هذه النزعة طابع التجديد وصنفت قصائده ضمن أدب التحديث، فسخرية أبي نواس من البكاء على الأطلال والمقدمة الطللية في القصيدة العربية كانت ذات نزعة شعوبية واضحة ليقوض كيان القصيدة ويحدث شرخًا علائقيًّا بين العربي وتراثه، فلم تكن دوافع أبي نواس تجديدية بقدر ما هي تعبير عن نزعته الشعوبية التي اشتهر بها والتي يقول عنها طه حسين في كتاب حديث الأربعاء: «يذم القديم لا لأنه قديم بل لأنه قديم عربي ويمدح الحديث لا لأنه حديث بل لأنه فارسي فهو إذن تفضيل الفرس على العرب مذهب الشعوبية المشهور» ويؤكدها بيتان في أحد قصائد أبي نواس يقول فيها:

فهذا العيش لا خيم البوادي *** وهذا العيش لا اللبن الحليب

فأين البدو من إيوان كسرى *** وأين من الميادين الزروب

نستطيع أن نتفهم شعوبية أبي نواس ودوافعها بعكس شعوبية اليوم التي يصعب تمييز أسبابها ودوافعها، ومع أنها تتسلح بالموضوعية والعلمية والنقد البناء، ولكن تحيزاتها واضحة وجلية، فقد أصبح هذا الشكل من أشكال الشعوبية ظاهرة منتشرة تستحق الدراسة التأمل.