الويلُ للناقد في أمةٍ لم يألف أدباؤها إلا قرابين المدح ونذور الثناء، يطرحها المؤمنون على أقدام تلك الآلهة، ثم حسبهم الرضا والشفاعة.. والذي لفّه ضباب الندّ والبخور بإزار حجبه عن الأبصار، حتى تنكّرت سحنته وأصبح شبحا مقدسا، يؤذيه النقد ويذيبه التحليل، وكيف لا؟ أما صار عند نفسه كتابوت العهد: من لمسه صعق..؟.

ومن لم يبرح هياكل التقريظ الموصدة النوافذ يضرّه القعود بالمروحة، ومن لم يتعوّد النظر إلى شمس الحقيقة يتململ إذا فجأه نورها، ويرقد إذا ثار في وجهه الرّهج، فماذا نفعل لأصحابنا ليألفوا تقلبات الأنواء واكفهرار الأجواء. إذا كتب أحدهم مقالا لم يَرق لك، فالويل لك إذا جهرت بعقيدتك، فديوان تفتيشهم يؤدبك، وإذا أسمعوك قصيدة ولم تكبّر عند كل بيت، فأنت حسود، وإذا لم تصفّق لكل شطر فأنت لئيم خبيث، أما إذا نقدت فأنت كافر بالعباقرة، تتهاون بنوابغ الأمة.

يجب أن تقول في الشعراء الكبار – وما أكثرهم عندنا أتمّ الله نعمة الشهرة عليهم - ما قاله بيار لويس في فكتور هيغو: «عندما تقرأ فيكتور هيغو يجب أن تقول: هذا سام، هذا فريد، هذا عجيب، وإذا كنت لم أفهم فأنا حمار..».

مثل هذا القول يرضي شعراءنا، مفاخرَ العرب وسادة العجم، بيضات الزمان، ومفارد الأوان، أما كتّابنا فعليك – لكي ترضي كبارهم - أن تقول فيهم ما قاله فيكتور هيغو في رينان: «إن الله خلقه بمرسوم خاص».

هكذا قل إن كنت تؤثر رضاهم على سخطهم، وإذا التقيت أحدهم على أثر قصيدة أو فصل أذاعته إحدى الصحف أو المجلات، فمطّ شفتيك كالعنز، واستلهم بديهتك، والويل لك إن تخنك البلاغة. هات أضخم الألقاب والنعوت، ولا عذر لك إذا قلت: لم أقرأها. عليك أن تقرأها، وإلا فأنت جاهل لا تتذوق الأدب الرفيع، ثم هب أنك لم تقرأها، فلا تكسر خاطره، وقل فيها ما يتوقع أن يقال، تعوّد أن يسمع، وترحّم بينك وبين نفسك على الحريري القائل: والصدقُ إنْ ألقاكَ تحت العطبِ لا خير فيه فاعتصم بالكذبِ، أما إذا تلهجمت ولم تقرظ فأنت حمار يا صاحبي، كما قال بيار لويس عن قارئ فيكتور هيغو. الحسد ترس تناقلته أيدي أدباء العرب منذ عَرفوا النقد، فكم اتّقى به «المتنبي» صدمات منتقديه، سواء أمتحاملين كانوا أم منصفين. أما قال «المتنبي» منذ ألف سنة: أزِلْ حسدَ الحُسّاد عني بكبتهم فأنت الذي صيّرتهم ليَ حُسّداً ثم قال أبو فراس: مشيتُ إليها فوق أعناق حُسّدي. لقد عفّت هذه الدعوى معالم الحقيقة، فأغامت سماء الأذهان وتنكّرت المحجّة، وكاد يتجمجم كل ناقد مخافة الظن، ولكن الإخلاص للفن يدرأ الشبهات، وكم نتمنى على الله أن يكون فينا من يُحسد لنرفع رؤوسنا بين أمم الأرض.

فحتّام تلوكُ ألسنتنا هذه الكلمة؟ وإلام يقبع وراءها أدباؤنا كالصائد في داموسه، وفيهم من لم تخطر له ببال يوم كان ينقد ولا يُنتقد؟.

هل من نقّاد مخلصين للفن لا يحابون كاتبا ولا يمالئون شاعرا، فلا يكيلون الثناء لشهير، ولا يتعامون عن جيد جاء من نكرة؟. ليت الصحف والمجلات تقلع عن هذه الألقاب التي تغرُّ الأدباء وتخدع القرّاء، وليتها تذكر أسماءهم كلما يذكر في أوروبا اسم «فاليري» و«كبلنغ» و«تاغور» و«ولز» و«شو» و«جيد»، ومن إليهم من كبار كتّاب العالم، ثم لا يُعرض لمحصولهم الأدبي إلا في مختبرات التحليل، فلتترك الصحف هذه الطلاسم التي تَرقي بها قراءها، وتنفج الأدباء حتى يصبحوا كالقطن المنفوش.

1951*

* أديب وناقد لبناني «1886 – 1962»