حين اجتمعت لجان قيادية من 16 وزارة و8 هيئات حكومية في 2015 في «الخزامى» بالرياض، لمناقشة المسودة الأولية لبرنامج التحول الوطني، لم يكن يدر بخلد أحد أن هناك رؤية تتشكل خلفها، وكان الحديث عن الفكرة الإدارية العبقرية في أنه بدلا من المكاتبات والمراسلات والاجتماعات الثنائية المجدولة وغير المجدولة، جمعت القيادة كل المعنيين في 24 جهة حكومية في مكان واحد، لمناقشة المشكلات ونقاط الاتفاق والخلاف، وحلها في الوقت نفسه، وهو الإجراء الذي كان يستغرق عقودا، ثم في نهاية الأمر يتم حله في وقت تنشأ فيه مشكلات وتعقيدات جديدة أكثر وأعمق.

كانت ورش العمل لكل جهة تعمل على تحديد أهم العوائق والتحديات التي تواجهها في سبيل تحقيق أهداف «رؤية السعودية 2030»، ثم تلا ذلك وضع مستهدفات، لمواجهة هذه التحديات ضمن الإطار الزمني للبرنامج من 2016 حتى 2020، واختير هذا الإطار الزمني ليمثل أهدافا مرحلية يمكن من خلالها التخطيط بشكل أقرب لأرض الواقع.

سبق إعلان «رؤية 2030»، في 25 أبريل 2016، عملٌ كثير من التخطيط والمناقشات وورش العمل، وكان من ضمن أهم برامجها التحول الوطني في نسخته الأولى من أجل بناء القدرات والإمكانات اللازمة لتحقيق الأهداف الطموح للرؤية، حيث تضمن أهدافا إستراتيجية مرتبطة بمستهدفات مرحلية إلى 2020، ومرحلة أولى من المبادرات، التي بدأ إطلاقها من 2016، لتحقيق تلك الأهداف والمستهدفات، على أن تلحقها مراحل تشمل جهات أخرى بشكل سنوي. وفي هذا الصدد، تمت إعادة هيكلة بعض الوزارات والأجهزة والمؤسسات والهيئات العامة بما يتوافق مع متطلبات هذه المرحلة.

في لقاء كبير، انعقد في فندق «الريتز كارلتون» الذي شهد المناقشات المطولة للوزراء مع شرائح متنوعة من المجتمع السعودي، ضم مسؤولين حكوميين مع مدنيين وعسكريين ومشايخ وأعيان ورجال أعمال واقتصاديين وإعلاميين وأكاديميين وأدباء ومفكرين، في ورش عمل استغرقت يوما طويلا شاقا، وكانت قاعة الريتز الرئيسية مثل خلية نحل، ضمت صفوة عقول وخبرات وتجارب المملكة العربية السعودية، واختتمت ورش العمل بلقاء كبير، في مساء اليوم نفسه، التقت فيه فلذات أكباد المجتمع السعودي «عراب الرؤية» ومهندسها، الأمير محمد بن سلمان، وكانت القاعة الضخمة ممتلئة إلى آخرها بالحضور، جالسين في صفوف ممتدة، مستعدين للقاء رسمي ملكي بالبشوت الأنيقة، غير أن النقلة المفاجئة التي حدثت للحضور عندما حضر الأمير محمد بعنفوانه وحماسه، ودخل القاعة بلبسه المميز، بالثوب والشماغ دون بشت، ولأنه لا يمكن بروتوكوليا أن يبقى الحضور بالبشوت، صرت تشاهد صفوف الجالسين، من الأمراء والوزراء والاقتصاديين وأمراء الأفواج والإعلاميين وغيرهم، يخلعون بشوتهم ويضعونها جانبا. تحدث الأمير حديث العارف الخبير عن رؤيته التي هي رؤية المملكة العربية السعودية، وعن برنامج التحول الوطني حديثا مبهرا متسلسلا ومنطقيا بالأرقام، وهو الأمر الذي لم يعهده أحد من الحاضرين في أي مسؤول قبله، فعرف الناس أن برنامج التحول الوطني مختلف تماما عن الخطط الخمسية السابقة التي تعودوا عليها، وألفوها بكل ما فيها، وأن البرنامج وإن اتفقوا معه في المرحلة الزمنية إلا أنهم سمعوا في آذانهم موسيقى جديدة، من أهم مفرداتها قياس أداء الأجهزة الحكومية من خلال 551 مؤشر قياس، بما فيها تقويم أداء الوزراء، ورفع كفاءة القطاع الحكومية، والخصخصة، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، بوصفها رافدا مهما للقطاعات الحكومية، وليست منافسة لها أو خصما لها. كما فوجئ الحاضرون بالشفافية العالية في إجابة الأمير عن أسئلة لم يخطر ببال أحد أن يسأل عنها، بل كانت ضمن المسكوت عنها، لأنها تتعلق بأجهزة ومناصب حساسة.

الرسالة الأولى التي خرج بها الحاضرون، والتي نقلوها إلى من خلفهم، وتحدثوا عنها وقتا طويلا، هي أن هذا اللقاء هو اللحظة التي تبدأ فيها ساعة العمل الحقيقية، وعلى الجميع أن يشمروا عن سواعدهم، ويتركوا البشوت لمقتضياتها الرسمية وفي مواطنها الضرورية التي تستدعي ارتداءها، والرسالة الثانية شاهدناها في الحضور الكبير بالقاعة حين خلع الجميع البشوت، فأصبحوا فريقا واحدا لا تمايز فيه بين الوزير والمفكر، وبين أمير الفوج والاقتصادي، وبين الأمير والمسؤول والإعلامي، الكل استمع إلى جانب من الرؤية وجانب من برنامج التحول، والجميع تحمس للرؤية، وشاهدتهم بعد ذلك على مدى السنوات التي تلتها، اسما اسما، وهو يعملون كل في جانبه من الرؤية، وكيف يكون الحماس لعمل شاركوا في نقاشات ورشه للخطة المقترحة لبرنامج التحول الوطني، ومسودات البرامج والمبادرات، بعد أن انتقلوا من مرحلة إبداء الرأي بشفافية إلى العمل بإيمان ووعي.

أعلنت الرؤية في 25 أبريل 2016، ثم أطلق برنامج التحول الوطني، بعد تحديثه، في 6 يونيو 2016، ليكون باكورة البرامج التنفيذية للرؤية، ويهدف إلى تطوير العمل الحكومي، وتأسيس البنية التحتية اللازمة لتحقيق الرؤية، واستيعاب طموحاتها ومتطلباتها. وعندما أتصفح الآن المسودة الأولى لبرنامج التحول، والتوجهات من العامة لـ«رؤية 2030» للمملكة، ليكون الوطن نموذجا ناجحا ورائدا في العالم على كل الأصعدة، ثم أشاهد ما تحقق حتى الآن، فإني على يقين أن الجميع شاهد نقلة كبيرة، خاصة في الجانب الاقتصادي والاستثماري والتنموي والتقني والإداري والسياحي والترفيهي على مستوى 24 جهة حكومية، أصبحت الآن حديث المجالس، ونموذجا يحتذى في العالم، خاصة مع «جائحة كورونا»، وأنا أعلم يقينا أيضا أن ما تحقق، على الرغم من نتائجه الهائلة، لا يعد شيئا مع طموحات «رؤية 2030»، ونحن لم نقض منها إلا الثلث، قضيناه في التصحيح والإعداد، ليكون الثلثان الباقيان أسرع وأوضح نتائج، ولم نلتفت للحملات والمكائد التي تحاك وسط محيطنا الملتهب، ونحن نردد: «إلينا يا من غمر قلوبكم الظلام».