كيف تشكل الفكر العربي بين الماضي والحاضر؟. تأثر الفكر العربي بشكل كبير بالأحداث السياسية التي بدأت منذ قيام الثورة العربية في ١٩١٦ إلى يومنا هذا، فبعد الثورة العربية واجهت الساحة العربية انقسامات فكرية كبيرة، كان لبعض الزعماء العرب دور فيها، وهذا ما شكل خللا كبيرا في الجذور الثقافية والتوجه الفكري والنظر حول الذات لدى الشعوب العربية.

تعددت التوجهات، وتضخمت الأحلام، ومن أهمها فكرة الوحدة العربية والقومية في عقول الزعماء العرب مثل صدام حسين وجمال عبدالناصر، ولكن لم تعٍ الشعوب أن الوحدة العربية لم تكن يوما موجودة، وحتى إن كانت الأيام الخوالي ليست بها حدود بين الشعوب، فيجب أن نعلم أن السياسات الماضية مختلفة عن السياسات الحالية.

الهدف الأسمى في وحدتنا كعرب لن تفيد الأمة بشيء حتى في القضية الفلسطينية، إذ في الوقت الحاضر بيننا حدود، ونحارب بعضنا البعض، فما بالك إذا توحدنا، فالقضية ليست قضية حدود أو وحدة عربية، بل القضية قضية احترام متبادل، وتنمية داخلية، وإعادة هيكلة للجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع العربي. عندما بدأت الأفكار القومية والشيوعية تدخل المجتمعات العربية، كان لها تأثير سلبي كبير عليها، بالإضافة إلى الموجات الدينية المضادة المتعاقبة والمختلفة، التي وصل بعضها إلى حد الإرهاب والتعصب. مع احترامي لجميع الجماعات في الوطن العربي، ولكن سأصف المشهد الذي نعيشه اليوم، مثلا في الجماعات الشيوعية والقومية لدينا جماهير تتغنى بمقولات تشي جيفارا وكارل ماركس ولينين، على الرغم من أن روسيا في الحقبة السوفيتية لم تكن جنة المساواة كما يتخيلها الشيوعيون العرب، ولم تكن جحيما كما يصفها الإسلاميون، ولكن كانت أبعد مما يكون عن المساواة التي كتب عنها كارل ماركس، وطبقها لينين، والتي كانت في أساسها تخدم حزبه، فيجب أن نعلم أن هناك فرقا كبيرا بين النظريات والتطبيق الواقعي. والمجموعات الدينية تريد الأخرة، وأكبر قضاياها في الدنيا هي المرأة، ولم تعالج أي مشكلة اجتماعية، وأيضا الجماعات الدينية لم تنتج نموذجا إسلاميا سليما وخاليا من التعصب والحزبية، لكي نقول لهم: نريد مجتمعا إسلاميا، لأن التوجه أبعد من الواقع وأقرب إلى الأساطير.

والليبراليون في الوطن العربي يريدون حرية وتحررا دون أهداف أو رؤية واضحة للفرد في المجتمع، فالليبرالية الغربية مرتبطة بتاريخ طويل من النمو، والعقبات التي واجهتها، وشارك فيها المجتمع بأكمله، وصححت مسار المجتمع فيما بعد، ووصلت للنموذج الليبرالي الذي نراه اليوم، بالإضافة إلى تطوير المفاهيم الليبرالية باستمرار بما يتناسب مع الوضع الاجتماعي الحالي، ولم تأت في يوم وليلة.

وفي الوقت نفسه لا أريد أن أضع أوروبا مثالا، ولكن يجب أن نتطرق للفكر الغربي الذي صنع الآلة وطورها، ولم يصنع الوهم في عقول الشعوب.

يتميز الشعب الأوروبي عن الشرقي بأنهم رفضوا الوهم الذي كان يتاجر فيه رجال السلطة من زمن بعيد. أنا لا أدعو إلى محاربة الليبرالية أو الدين أو الشيوعية، ولكن إذا وضعنا الدين أو الشيوعية أو الاشتراكية أو الليبرالية حلا لجميع مشكلاتنا، فسنتجه هنا إلى أزمة جديدة، وهي أزمة الهوية، فهذه الأزمة التي تواجهها روسيا إلى الآن، ويحاول الرئيس فلاديمير بوتين حلها.

بعد الستار الحديدي الذي كان يعيش الروس خلفه، والأيديولوجية الاشتراكية التي كانت تنكر أي شيء مختلف عنها، وصل الاتحاد السوفيتي إلى آخر أيامه، ومع تطور شبكات التلفاز والراديو، ومحاولة اندماج روسيا في المجتمع العولمي، خاصة في فترة حكم آخر رئيس سوفيتي، ميخائيل جورباتشوف، ومحاولته التقرب للغرب، بالإضافة إلى خطة «البيريسترويكا» الاقتصادية، تحول الاتحاد السوفيتي من دولة سوفيتية شيوعية إلى دولة رأسمالية في يوم وليلة، مما أثر سلبيا على جوانب كثيرة، سياسية واقتصادية، ليس هنا مجال للخوض فيها، ولكن المهم هو رؤية الجانب الاجتماعي في خضم هذه الأدلجة التي كانت توجه الشعوب، فما زال الشباب الروسي يعيش أزمة هوية بين كونه غربيا أم روسيا، وهذه الأزمة نفسها التي يعيشها شبابنا اليوم.

عندما نريد أن نعيش في ثقافة، فيجب أن تكون لنا هوية تليق بنا وبتاريخنا، هوية قادرون أن نفهمها ونطورها ونحل قضاياها. النقطة المهمة هي لا تحاولوا أدلجة أدمغة الشعوب عن طريق التوجيه، بل عن طريق الفهم والوعي الذي يتطابق مع روح الإنسان، وليس المعاداة ومعاداة الآخر، فالاختلاف في المجتمع العربي، سواء داخل الدولة العربية أو بين الدول العربية، يجب ألا يعني مفهوم العداء، ولكن يجب أن يعني التميز.

جميع هذه المجموعات على مر التاريخ تحاول أن تقنع الشعوب أن الحياة بفكرهم وتوجههم ستصبح الدولة الفاضلة، وجنة الله في الأرض، الخالية من المعاصي والأخطاء، فالإسلاميون يريدونها خالية من الفتن والأخطاء، والليبراليون يريدونها متحررة من القيود، والشيوعيون يريدونها عادلة ومتساوية، وهذه دائما أحلام الفلاسفة الذين يسعون للفضيلة الكاملة في الأرض، لكن بدل أن توجهوا الشعوب نحو المثالية، علموهم حل مشكلاتهم الصغيرة في الحياة، التي تساعدهم على إحساسهم بالإنجاز والتحدي والمرونة، التي تجعل الإنسان قادرا على التأقلم مع تحديات الحياة، لأن الحياة لا تخلو يوما من الإشكاليات التي تتحدى الإنسان في حياته.

لا شك أن الفكر والفلسفة ودراسة العلوم مهمة في كل مجتمع، خاصة في مجتمع المثقفين الذين لهم دور كبير في تنمية المجتمع، فالمجتمع الثقافي هو جزء حساس في المنظومة الاجتماعية، لأنه هو القادر على النقد والتفكير والتطوير عن باقي المجتمع.

أنا لست هنا لكي أرفض جميع الجماعات، وأضع نقطة في آخر السطر، لكي أثبت من الصح ومن الخطأ، ولكن نريد تصحيح منهجية الفكر العربي التطبيقية، فالعالم العربي لا يفتقر أبدا للكفاءات والعقليات الفذة، لكن نريد نقدا وفكرا ومنهجية نابعة من ذواتنا ومن ثقافتنا، اجتهادا جديدا وروحا جديدة تتكيف مع روح العصر.