يواجه التنويريون السعوديون عقبات كثيرة في إيصال مفهوم التنوير المؤطر بالثقافة الإسلامية وذلك بسبب ارتباط التنوير في أذهان الكثيرين بتجربة التنوير الأوروبي واعتبار التنوير السعودي امتدادا لها, ووقف التنوير في مواجهة مع التيارات المتشددة التي اتهمت التنويريين بمحاولة مسخ شخصية الأمة وتراثها الفكري.. ولو عقدنا مقارنة بسيطة بين المبادئ التي يدعو إليها التنويريون ومبادئ الإسلام العظيمة لوجدنا في هذه المبادئ لب الإسلام وروحه.. وليس دفاعا عن التنويريين- وإن كانوا يستحقون ذلك- لكن هو توضيح لمن يريد أن يتعرف على ثقافة التنوير وأفكاره.. لم يأت التنويريون السعوديون بجديد أو خالفوا الشرع عندما تبنوا حرية الرأي وحرية الكلمة والحرية الدينية (لا إكراه في الدين) فقد كان عليه الصلاة والسلام يبلغ دعوته بالإقناع بعيدا عن الإكراه والضغط.. دعا التنويريون إلى الكلمة الصادقة البعيدة عن الإساءات والتجريح.. الكلمة التي تصدح بالحق ولا شيء غيره... (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق..).. دعوا للحرية التي تصون كرامة الإنسان بعيدا عن الأفكار الأحادية والإقصائية والمماحكات التي لا طائل منها التي لا تزيد مجتمعنا إلا احتقانا وتقف حاجزا أمام خيارنا جميعا نحو الإصلاح والتنوير..

لم يجنح التنويريون عن الأصول الدينية عندما دعوا إلى استثمار العقل ويقظة الفكر فقد شحذت النصوص القرآنية هممنا للتفكير وبنيت حضارة الإسلام عليه.. وأنكر التيار المتشدد على التنويريين دعوتهم للتجديد الديني بحجة خوفهم من المساس بالثوابت! وأن الإسلام ليس مسودة مفتوحة قابلة للتعديل والتصحيح من الجميع.. لكن التجديد الذي يريده التنويريون يوضح فكر الإسلام ومبادئه وأن الإسلام دين مادي وروحي.. تجديد يشرف على جميع مناحي الحياة ويتحكم بسيرها ويمسك بزمام أمورها, يقول الشيخ الغزالي في كتابه (كيف نفهم الإسلام) ..(تجديد الإسلام ليس نقل الدين من مكانه إلى حيث يهوى الناس, بل نقل الناس من نطاق أهوائهم إلى حيث يرضى الله).. وفتح الإسلام باب الاجتهاد وكان هذا علامة صحة على مر العصور ودلالة كبرى على عظمة الدين كون الاجتهاد ضرورة إسلامية وإنسانية.. ولقد اجتمعت الأمة على أن المجتهد مأجور والتحامل عليه منكر كبير.. ونادى التنوير إلى تأصيل ثقافة الاختلاف والدعوة للتعاطي مع كل حقائق التعددية والمذهبية والتعامل معها بمنطق إيجابي وحضاري.. وأن الاختلاف لا يمنع أن نتآلف ونتعايش وأن نعترف بشرعية الاختلاف ومخالفة ذلك هو مخالفة صريحة لقانون الوجود الإنساني.. (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).

ولو استعرضنا مثالا لأحد مبادئ التنوير مثل ضرورة التعايش مع الغرب التي دعا فيها التنويريون إلى النظر إلى إنسانية الغرب وتوضيح صورة ديننا الحقيقة من خلال سلوكنا وبشكل يعبر عن عدل الإسلام وإنسانيته..وهذا ما أوصى به سيد الخلق- عليه السلام- عندما أمرنا بالعدل والبر في تعاملاتنا معهم كيف لا والقرآن الكريم أعطى للإنسان قيمة إنسانية مجردة من أي قيود عرقية.

لقد اتهم التنويريون بالانبهار بحضارة الغرب وتقليدهم وهذا لم يحدث على الأقل من الأغلبية العظمى منهم.. بل لقد دعوا إلى الاستفادة من حضارة الغرب والمحافظة على الثوابت والأصول. وعندما نشيد بحضارة الغرب ونسجل إعجابنا ببعض ما فيها فهذا لا يكفي بل يجب أن نستفيد منها وننفع بها أمتنا وإذ لم نفعل فقد نخسر الكثير ونبقى في أماكننا ولا نتجاوزها.. وهذا ما فعله الغرب عندما أسسوا علومهم وآدابهم وجل قوانينهم على الحضارة الإسلامية.

في كتابه (السياسة بين الحلال والحرام ـ أنتم أعلم بأمور دنياكم) تناول المفكر الدكتور تركي الحمد مبادئ التنوير الحقيقة التي كانت مفاهيمها لوقت طويل من المفاهيم الضبابية وهي مبادئ وأفكار حث عليها الدين وأمرنا بها كالتسامح والمحبة بين الناس وحتمية نشر ثقافة الحوار وعمارة الأرض والمساواة واختيار السلام لا السلاح كفيصل في العلاقات بين البشر وأن الإشكالية ليست في الأخذ بالشريعة بل في ممارسة الشريعة وجوهر الدين وهنا يكون المحك. وهناك غيرها الكثير من الأفكار والأطروحات التي لم تخرج عن إطار الإسلام العظيم.. ولن أستطيع أن أختزل ما ورد بهذا الكتاب الذي سيسجل بشرف في التاريخ في كلمات معدودة.. لكن سأنقل منه عبارة لأختم بها مقالي.. (التغيير قادم قادم، بهذا الشكل أو ذاك؛ واللبيب هو من يدرك هذه الحقيقة, ويتعامل معها على هذا الأساس, واستعد للتغيير في محاولة للتكيف معه ومحاولة السيطرة على نتائجه ولو جزئيا, بدل أن يأتي هذا التغيير عاما وعارما ومفاجئا, فلا يمكن التكيف معه, أو التحكم ولو جزئيا, بنتائجه وهنا تكون كارثة الجميع حقيقة)..