كلمة «النُصب»، بضم النون، التي أطلقت على أقدم وأجمل الأحياء في مدينة «أبها» منذ مئات السنين، تدل على ذائقة عالية وصفاء ذهني وفكر ثقافي سليم لأسرة «آل مفرح»، أول من اتخذوا ذاك المكان سكنا ومقرا.

هل كانوا بهذا المسمى يؤكدون أن المكان في نُصب أعينهم من الاهتمام والرعاية؟ أم جاء الاسم نسبة للصخور الكبيرة التي بنيت فوقها الطرز المعمارية، لحمايتها من السيول الجارفة، ولا سيما أن الحي يقع على ضفاف وادي أبها الكبير.

وقد يكون الاسم جاء من السحاب الأبيض المرتفع الذي يسمى «النُصب»، وفي هذا أورد الشاعر أحمد الحفظي - رحمه الله - في إحدى قصائده اسم السحاب بـ«النُصب» حين قال:


«يا أم عبد مالك والتشرد

ومسراك بالليل البهيم لتبعد

ومأواك أوصاد الكهوف توحشا

ومثواك أفياء النٌصوب وغرقد».

ومعاني الاسم كثيرة ومتعددة، ولكنها لا تكاد تخرج من هذه المعاني الأصيلة.

في ذلك الحي بعبقه التراثي عاد ويعود وهجه وألقه مرة أخرى من خلال «ثلوثية النُصب» في قصر «جمهور» التاريخي، وهو القصر الذي بناه الشيخ أحمد بن سعد آل مفرح - رحمه الله - ١٣٥٣ هـ، و«جمهور» هو أحد ألقاب قبيلة «بني مغيد».

ويشرف على هذه الثلوثية ويرعاها الصديق الدكتور عبدالرحمن آل مفرح، الذي سبق أن لبّيت دعوة مفتوحة منه قبل فترة، للحضور ولقاء أصدقاء باعدت الأيام بيننا.

وتعد الثلوثية رافدا مهما لتاريخ وتراث المنطقة بصفة عامة، ومدينة أبها (مغيد الوطى) بصفة خاصة، ولعلها تكون الوحيدة في المنطقة بين المنتديات والصالونات الأدبية حين تفردت بخصوصية المكان الذي يحمل عبق الماضي بتفاصيله هذا أولا، وثانيا أن الموضوعات في الثلوثية غير مسبقة الإعداد والعناوين، تماما مثلما كانت مجالس الناس ولقاءاتهم وسمرهم في منطقة «عسير» منذ مئات السنين.

في هذه الثلوثية تأتي الأحاديث هادئة بعواطف متزنة، ونقاشات صادقة المحتوى والمضمون، تسبر أغوار أبها وأسرارها وحكاياتها العجيبة التي لا تنتهي، وتعزز من اللحمة الوطنية، وتفاخر بمنجزات بلادنا في المجالات كافة.

في هذه الأجواء الرغيدة، يبوح المتحدثون بأعذب الكلام، وتنتعش الذاكرة بأحاديث المحبة والسلام، وتشرق الابتسامات حنينا لزمن مضى، وتختفي في الثلوثية مصائد الأخطاء، ومطبات الإقصاء، والتكلف في الطرح والرسميات والفلسفات والتناقضات وسوء الظن والتعالي.

يشعر الحضور بأنهم في أحد المجالس العامرة في «أبها» قبل قرن وأكثر، حين كان الناس يغشونها ويحفهم السرور، يستهلون وصولهم بـ«الردودة»، ثم تبدأ الأحاديث والقصص والمعلومات.

إن «ثلوثية النُصب» بأبها ركن ثقافي تراثي مهم، تسعى للمزيد من إلقاء الضوء على التراث والتاريخ والعادات، بالإضافة إلى إبراز النجوم من الأهالي الذين سبقوا عصرهم في الكثير من معطيات الحياة الثقافية والتعليمية والإعلامية والفنية والزراعية والصناعية أو حتى الأشخاص ممن مروا وعاشوا على هامش المدينة، وما زالت الفرصة مواتية للتعرف عليهم أكثر من خلال أناس ما زالوا على قيد الحياة، عاشوا معهم أو سمعوا من غيرهم مشافهة، وتَتّبعوا مسار حياتهم قراءة في كتب أو مخطوطات.