من لم تغن له تهويدة ناعمة، عندما كان طفلا لمساعدته على النوم ؟ أو لم يغن لطفل غاضب في محاولة ليكون أكثر هدوءا، سواء بألحان متناغمة أو شاذة أو مختلقة حتى!؟

جميعنا نشأنا على التهويدات، كل حسب إرثه الثقافي الذي خرجت منه التهويدة وتعمقت وسطه، لقد أدرك آباؤنا مبكرا جداً، أن الغناء لأبنائهم يساعدهم على الشعور بالهدوء، ولكنهم لم يكونوا على علم بأن هذا الفعل العفوي جدا منهم، يعد جزءا جوهريا في التطور المعرفي لصغارهم. وسواء كانت الموسيقى تهويدة أو من أغاني الصراعات الآنية - لريانا، أو عبادي أو شيرين - انخرطوا في الغناء مع صغاركم، فأنتم على الأرجح تفعلون الصواب مع أطفالكم.

يقول أفلاطون في الحديث عن الموسيقى، بأنها تعطي للكون روحًا وللعقل جناحًا، وتقدم رحلة إلى عالم الخيال وتدُب الروح في كل شيء.

إنها العالم الذي ندخله بمزاج ونخرج منه بمزاج آخر مغاير، حسب احتياجات الموقف، هذا السر الباتع لا يتوقف على الكبار كما أسلفنا، إنها -وكما هو مشهود له علميا - تحفز تعلّم ونمو الطفل، إنها حرفيا لغته الأولى التي تستحث حاسته السمعية وهو في المهد، فتحفز معدل ضربات القلب، وتساعد في إنتاج الأندورفين لدى الأم. كما تطور قدرته على الانتباه وتشجعه على التعبير عن نفسه، وتساعده في محاولة نطق الأصوات المختلفة التي يسمعها بشكل مرتجل، وتسهل تعلم المفردات مع ما يرافقها من ألحان تجعل تناولها أكثر سهولة.

مجلة «PNAS» العلمية نشرت دراسة تؤكد أن انتباه الطفل إلى الموسيقى يماثل البالغين، وأنها تُنمّي لديه قوة التركيز، وتساعده في الاسترخاء، وتحفز الإبداع وتطلق جماح الخيال. هي دراسة من دراسات متعددة جميعها تطرقت إلى العلاقة الوثيقة بين الموسيقى والنمو المعرفي لدى الطفل، إذ أنها إضافة إلى كل ذلك فإنها تساعد الطفل في التفكير المعقد وحل المشكلات الرياضية، وتمنح الطفل ذاكرة أفضل على المدى القصير، وتُنمّي لديه مهارات التخطيط والذكاء اللفظي، وتساعده في تحقيق نتائج أكثر تميزا في المجال الأكاديمي على المدى الطويل.

ليس ذلك فحسب، بل خلصت الجمعية الأمريكية للتصوير الشعاعي «RSNA» إلى أن الأطفال الذين يتلقون دروسا في الموسيقى، تزيد لديهم الروابط بين الخلايا العصبية فينمو الدماغ بشكل أفضل، بفضل الشبكات العصبية، وتحفيز المسارات الموجودة فيه.

التمعت في ذهني وأنا اراجع كل ما قرأته بهذا الخصوص، ما شهدناه بالسنوات الأخيرة - عطفا على مبادرات أطلقتها وزارة الثقافة - من تحولات في المشهد الموسيقى، وما راج عن إمكانية اعتماد الموسيقى مادة دراسية تعليمية بصفوفنا الأولى، وهو ما يترقبه عدد كبير من أطياف المجتمع السعودي، فهي إلى جانب فعلها الترويحي الذي لا يمكن إنكاره، تمكن من اكتشاف المواهب الأصيلة مبكرا، واحتضانها، والعمل عليها، كي تكون جزءا من إرثنا الثقافي أسوة بالدول التي سبقتنا إلى ذلك. بالإضافة إلى جوهر الفكرة - إدراجها كمنهج دراسي- والذي سيمكنها أن تفعل فعلها السحري في بناء عقول النشء وهم في طريقهم للمستقبل، حيث تعمل المهارات الحركية الدقيقة المطلوبة لعزف الموسيقى، على تحسين الدماغ البشري، بالجمع بين الشق الأيمن والأيسر للمخ وتعزيز الاتصال الدائم بينهما،إذ أنه من المعروف أن الشق الأيسر من الدماغ مسؤول عن العديد من الأشياء، كالدقة اللغوية والرياضية «من الرياضيات»، في حين أن الشق الأيمن مسؤول عن الأمور المبتكرة والإبداعية أو الأصيلة،وهذا ما سيسمح لأطفالنا بالتفوق في ما هو أكثر من مجرد عزف الموسيقى، في المدرسة والعمل والحياة اليومية.

وفيما يمر بذاكرتي الآن قول نيتشه «قد تصبح الحياة غلطة بدون الموسيقى»،أتساءل ماذا عن بناء جسور تعاون وتنسيق بين وزارتي التعليم والثقافة، لإدراج الموسيقى ضمن المنهج الدراسي، فالوطن يحتاج كثيرا ظهور جيل محب للفن، متصالح معه، معتمدا على خلفيات ثقافية ومعرفية، متسلحا بالمنهجية والعلمية، جيل خلاق ومبتكر وقادر على تجاوز تحديات الحياة، منطلقا من عقليات جديدة وأفكار واعدة مدججة بنبض العصر وإيقاعه.