لقاء سمو ولي العهد، محمد بن سلمان، مع المذيع المديفر قبل أسبوع من الآن بمناسبة مرور خمس سنوات على انطلاق «رؤية المملكة 2030» لم يكشف لنا وحسب عن قوة حضور وتمكن الأمير الشاب المجدد من كم المعلومات التي يمتلكها، ولا الاطلاع الواسع على مسارات الرؤية بمشاريعها المختلفة، ولا الدقة في رسم ملامح المستقبل القادم بثقة من يملك الأدوات والأسباب والإمكانات ويعمل عليها؛ بل إنه في هذا اللقاء، وبعيدا عن المديح الذي لا يزيده مكانة في قلوب محبيه، ولا التمجيد الذي لا يسلط الضوء على مكامن هذا اللقاء وتفاصيله، كان يبني منهجا فكريا جديدا في مسارات مختلفة من الحياة، الإدارية والإنسانية والاقتصادية والتشريعية والعالمية، تماما كما فعلت الرؤية من تحولات عظيمة، نلمسها ونعيشها ونمضي معها نحو القادم بكل احتمالاته. ولعل كل مسار من تلك المسارات يحتاج مقالا مستقلا، يفصل فيه ما يمكن تفصيله.

الأمر الذي كان باعثا على إدراك قوة هذه الأمير الشاب، وعزمه الجاد، الذي لا يقبل مخاتلة ولا ترددا، على التجديد والتغيير والتطور، وهو ما قاله في الجانب التشريعي للحكم في المملكة الذي يقوم على الدستور القرآني، وإن «الحكومة ملزمة بالحديث المتواتر في الأمور الشرعية. تنظر في الآحاد ولا تنظر للخبر إلا في حالات خاصة»، وتأكيده أيضا أن السعودية في منهجها الإسلامي «لا تتبع مدرسة ولا عالما معينا».

تأكيد ولي العهد أن الحكومة في تطبيق الأمور الشرعية تتبع القرآن دستورا، وتأخذ تشريعاتها من الأحاديث المتواترة وحسب، مع النظر في أحاديث الآحاد حينما تتفق مع نص قرآني، يعد تصريحا غير مسبوق لشخصية اعتبارية لها مكانتها في هذا المجال، وبداية لتغييرات فقهية معاصرة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار من أصحاب العلم والشأن الفقهي والتشريعي، ليس في المملكة العربية السعودية وحسب، بل في كل البلاد الإسلامية، لأن هذا سيؤدي لفهم وتفسير وتغيير الكثير من التشريعات والأحكام الفقهية السابقة المعمول بها، وهو من القوة والتأثير كتأكيده أن «لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص شرعي أو قانوني»، مما يمنح العدالة في القانون القوة والاتزان والثبات بدلا من تفاوت الآراء والأحكام بين القضاة حسب الاجتهادات الشخصية والآراء الخاصة التي تستند على ما تواتر من الحديث أو آحاده أو خبره.

كما أن في نفيه قداسة أي شخص أو منهج، وتأكيده أننا لا نتبع مدرسة ولا عالما معينا، هو كمال الاعتدال، ونفي الألوهية عن غير الله سبحانه وتعالى، حيث وصل الحال بالكثير - في مراحل سابقة لعهد الرؤية.. عهد الوضوح والمكاشفة - لتأليه بعض العلماء والمحدثين، وتقديس آرائهم وأفكارهم أكثر من النص القرآني المنزل، وهو ما كان سببا من أسباب التطرف والغلو، والذهاب بعيدا نحو الإرهاب الذي وجد له حاضنة مسكوت عنها في المملكة، لأنها تجرم العمل الإرهابي قبل أن تنظر في أسبابه وتفندها وتحاكمها، فضلا عن استهدافها كمكان ومكانة بهذا التطرف المفضي للإرهاب وأعماله.

ولي العهد في هذا اللقاء لم يلق باللوم على أحد في أي خلل سابق، ولم يتحدث عن الحاضر ولا المستقبل بطرق عشوائية ارتجالية، وهذا من فنون الإدارة والعمل المؤسساتي الذي يعلم ماذا يقول وإلى ما يرمي في قوله. في معرض الحديث التشريعي، على سبيل المثال، أعترف بما كان في الماضي بأننا كنا مستهدفين بالإرهاب حد التورط به، ولهذا أسبابه. كما أننا كنا على منهج واحد، تسبب في كثير من الصراعات على مستوى الأفراد والأجناس والمذاهب، وتلى هذه الاعترافات عمل محكم خلال السنوات الخمس الماضية، التي بدأت بها «رؤية 2030» خطاها، ووضعت منهجا للحاضر بسن تشريعات جديدة، وفرض قوانين صارمة، والعمل على تغييرات جادة، شملت الأحوال المدنية والاجتماعية لمواطني المملكة والمقيمين عليها. جميع هذه الأمور لمسناها واقعا في حياتنا، وصارت الفجوة بين تلك الفئات متلاشية (الأفراد - الأجناس - المذاهب)، وصار الحكم فيها ما يحتكم للشرع والقانون، وبتلاشيها اختفى كثير من الصراعات التي أضاعت قدرات وإمكانات وأعمار الكثير، وأصبح التركيز على البناء الشخصي، وبناء الوطن ونمائه هو الأولوية للحكومة والشعب. لم يتوقف الأمر على الاعتراف بالماضي، ولا العمل الجاد في الحاضر، بل إن رسم خارطة طريق للمستقبل، ووضع الخطط والأهداف القادمة، صار أمرا معلوما لدى الجميع، وبإمكانه المشاركة بفعالية فيه. ومن صور هذا النهج للمستقبل هذه التصريحات عن تأكيد القرآن دستورا للدولة، واعتماد التشريع في الأحكام على المتواتر من الأحاديث، الذي سيعمل على نقلة مستقبلية في الفقه الإسلامي، ومزيدا من التشريعات والأنظمة والقوانين التي تساعد في تحقيق مستهدفات الرؤية والتنمية المستمرة التي لا تقوم إلا على أسس من التجديد والتغيير والتطور الدائم، وفق ما يفترضه كل زمان، وما يتحتم عليه من مواكبة حكومية واجتماعية وإنسانية.