كم فاتت علينا الفرص لأننا تحدثنا إلى أنفسنا بكل سلبية، وأعطيناها معلومات مغلوطة عن قدراتنا، فقط لعدم إيماننا بأننا فعلا نمتلك القدرات، التي تؤهلنا للقيام بالعمل! يمر بنا العمر ونحن نصغى، بل نعطي الآخر جل اهتمامنا بما يراه عن ذاتنا وقدراتنا، «مستحيل... بماذا تفكر يا رجل؟، كيف تفكرين أنك بالمستوى نفسه الذي وصلن إليه من علم وخبرة»، وغيرها من عبارات التحطيم التي يتعرض لها الفرد خلال مسيرته في الحياة، ورغم أن الإجابة واضحة وسهلة، نفضل أن نصدق ذاك الهاتف القادم من أعماقنا، بدل أن نصدق بأن الله سبحانه وتعالى خلق بداخلنا قوى كامنة في انتظار الفتيل، حتى تنفجر وتخرج إلى العلن. قرأت يوما قصة لورا شولتز ذات الـ 63 عاما، والتي من خلال سردها سوف تتضح لكم الصورة، ويصل المعنى خلف ما أحدثكم عنه اليوم.

حدث يوما من عام 1977، أن كانت لورا شولتز في مطبخها بتالاهاسي «فلوريدا»، حيث كانت منشغلة بإعداد وجبة غداء سمعت صراخا آتيا من الخارج، تجمدت للوهلة الأولى للتأكد، فإذا به صراخ حفيدها البالغ 6 سنوات من العمر، و الذي كان في مدخل السيارات بالخارج، لم تشعر إلا وهي تجري بكل ما أوتيت من سرعة إلى الباب لتفتحه وترى ما جمد الدم في عروقها، حفيدها معلق أسفل الإطار الخلفي لسيارة بويك من الطراز القديم، بمعنى أنها كانت سيارة ضخمة! أسرعت لورا إلى السيارة دون تفكير بأي اعتبار للقيود أو الحواجز التي عادة ما تنتابنا عند التفكير برفع أي شيء ثقيل، واستخدمت إحدى يديها لرفع الجزء الخلفي من السيارة ومدت اليد الأخرى لسحب حفيدها إلى بر الأمان. كل شيء حدث في دقائق ولربما أقل، ولكن لأثر الحادثة في لورا، رفضت التحدث لأي أحد خاصة لوسائل الإعلام. فضلت الصمت حول المعجزة التي فعلتها، ولكن أخيرا وبعد إلحاح ومتابعة شديدة، وافقت على إجراء مقابلة مع مدرب أداء مشهور يدعى الدكتور تشارلز جارفيلد، الذي فوجئ بكمية الحزن الذي كانت تخفيه بداخلها، إذ كان يجب أن يكون فخرا وسعادة لها أنها أنقذت حفيدها من موت أو ربما بتر لعضو من أعضائه، كيف تحزن وهي التي قدمت عملا بطوليا أقرب ما يكون لمعجزة. ولو لا أن ما حدث كان قد صوره أحد المراقبين الذي صادف وجوده بالقرب منهما، لما عرف العالم أو حتى صدق أن هذه الجدة التي من المفترض أنها في سن تحد من قواها الفسيولوجية، قد رفعت فعلا سيارة ضخمة وحدها دون أي مساعدة.

في المقابلة أجابته بأنها كانت حزينة لأن الأمر بعد تفكير عميق أضاء بداخلها ما لم تكن تفكر فيه من قبل، لقد تعرفت على حجم الوقت الضائع من حياتها، الذي كان من الممكن أن تستفيد منه، ولكنها تركته يتسلل من بين أصابعها فقط لأنها لم تؤمن بقدراتها!. قالت: عندما رأيت يد حفيدي تحت إطار السيارة، لم أشك للحظة أني قادرة على رفع السيارة، لم أفعل هذا من باب التجربة، على العكس تماما، لقد كنت في تلك اللحظة على يقينٍ بأني قادرة على فعل ذلك«، ثم أضافت أنها استعرضت حياتها الماضية، وكيف أن أشياء كثيرة كانت تود أن تفعلها ولكن الخوف من الفشل منعها من التقدم وتحقيق ذلك. لقد اكتشفت أنها كانت قادرة ولكن إيمانها بذاتها لم يكن موجودا، وهنا أدركت أن «سر النجاح هو أن يؤمن الفرد بنفسه» لقد أكتشفت لورا أن الحادث أخافها وذكّرها بأنها أهدرت معظم حياتها، وهي تعيش بعيدا عن إمكانياتها الحقيقية. والخبر المفرح أن المدرب عمل معها، وبقليل من التدريب استعادت لورا ثقتها بذاتها، بل سجلت في الجامعة وحصلت على شهادتها وواصلت الطريق حتى حققت حلمها وهي في الـ 70 من عمرها لتصبح أستاذة جامعية. طبعا لا نستغرب أنها حصلت على هذا العمل في الجامعة، لأنه لا يوجد سن تقاعد لهيئة التدريس الجامعية في الولايات المتحدة، كان سن التقاعد عندهم كما في بريطانيا 70، ولكن في عام 1994 صدر قرار إلغاء سن التقاعد في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يعتبرون أساتذة الجامعة كنزا معرفيا يجب التمسك به والاستفادة منه، إلى أن يتقاعد بنفسه، لعدم قدرته المواصلة صحيا، وليس كما يحصل عندنا مع بداية سن 58 تبدأ ملاحقة الأستاذ الجامعي وتعريضه لكل ما يخطر على البال من مضايقات، ومعاملة لا تقدّر مستواه العلمي أو قدراته وخبراته العملية، لا ليثبت أنه قادر فقط بل أيضا حتى يرضى الجهات العليا بهذه القدرات وتعترف بها، ومع ذلك كله يشعرونه وكأنه يكنس من الحرم الجامعي مع بقية ما يرمى خارجه وهو في عز عطائه.

لقد تم فهم وتفسير رؤية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالمقلوب، التركيز على الشباب والتخلص من البقية، بدلا من الاستفادة من جميع القوى البشرية للنهوض بالرؤية!. نعود إلى موضوعنا، أيا كان ما نقوله لأنفسنا، أننا لا يمكن أن نفعله أو نحققه، يجب أن نتحرك ونفعله الآن! لم يفت الأوان أبدا لاستدعاء المدى الكامل لإمكانياتنا التي وهبها الله لنا. المطلوب فقط أن نعقلها ونتوكل، ولن نفاجئ غيرنا، بل سنفاجئ أنفسنا بقدرات كنا نجهل أننا نمتلكها.