هل الفلسفة مهمة؟ باختصار (مُخِل) الفلسفة ليست مهمة لمن لا يحتاجها، ومن انشغل بها دون وجود (قلق معرفي أصيل) يجعله يهاجر من بادية (الإجابة) وينتقل إلى مدينة (السؤال) فسيرجع إلى باديته كارهًا تلك المدينة التي أرهقته بالأسئلة، فكم في هذا الانتقال من غرم ومشقة نفسية وعقلية لم ولن يطيقها من لم يتجاوز الدلالة التقليدية لمعنى (العقل) كقيد ليتناغم سلوكه وسط الجماعة بصفته أحد الثدييات التي تعيش في جماعة/‏‏قطيع، وانتقل إلى ميلاد معنى جديد (للعقل) كمفتاح لملكاته الذهنية التي تتجاوز به منطقة (تقاليد الثدييات التي تعيش كمجموعات) إلى آفاق الفردانية والاستقلال الفكري سواء كان في مكتبته، أو مرسمه أو مسرحه أو معمله للنحت أو في مختبره المفتوح (الطبيعة) أو مختبره المغلق (مركز أبحاث) ليضيف للإنسانية معنى جديدًا في رصيد الإنسانية (العاقلة) في أحد مجالات العلوم والفنون.

فمما ينسب لفرانسيس بيكون أنه توقف أمام ثلاثة أحداث فاصلة في التحولات الأوروبية (المطبعة، البارود، البوصلة)، فلماذا اتجه إلى هذا المنطق العملي المتجاوز لما عاشه العقل الجمعي لقرية صينية قديمة عانت الفيضانات والغرق الدائم، وعندما تفقدها الإمبراطور ليسألها عن حاجتها أمام هذه المصائب سألوه أن يبني لهم معبدًا بدلًا من أن يسألوه أن يبني لهم سدًا يمنع عنهم الفيضان، وهنا يتجلى نوعان من أنواع النظر إلى الحياة، فرانسيس بيكون ينطلق من عقلية (إمكانية فهم الطبيعة والسيطرة عليها) بينما أفراد القرية الصينية ينطلقون من عقلية تؤنسن قوى الطبيعة وبالتالي فالحل دائمًا يكمن في (استرضاء هذه القوى الخفية للطبيعة)، وقد يقول قائل إن عقلية السيطرة على الطبيعة موجودة ويسمونها (استخلاف في الأرض) لكن أصحاب هذا القول يفهمون الاستخلاف بمعنى يربط العقل الإنساني برجل الدين لأنه هو من يحدد نطاق الاستخلاف وكيفيته ومداه وأدواته... إلخ، ولهذا فأبناء القرية الصينية ربما يرون أنفسهم مستخلفين في نطاق محدود لا يتجاوز ما يقرره رجل المعبد في حراثة الأرض وتربية المواشي، ومثل ذلك ما حصل مع كارل بنز في ألمانيا عندما اخترع السيارة التي تعمل بمحرك يعتمد على الوقود، فعندما (دعا الناس لمشاهدة اختراعه أصدر رجال كنيسة مانهايم في ألمانيا استنكارًا ونفيًا قاطعًا قرروا فيه أن: تحريك العربة دون حصان مسألة مستحيلة لأن الرب لم يخلق هذا الكون عبثًا وقد خلق لنا الجياد خصيصًا لتجر عرباتنا، إنه قانون أزلي لا يمكن لبنز ولا غيره أن يغيره) فهل عرفنا ضرورة (التواضع المعرفي) للوصول إلى مدينة (السؤال) بدلًا من بادية (الإجابة) التي تعاني القمل وتكون ردة فعلها على شظف عيشها ما ورد على لسان أحد أبناء البادية عندما حكى عن قادم من مدينة (السؤال) كانوا يفلون رأسه فلا يجدون فيه قملا، فأخبروا أحد كبار السن عندهم عن ذلك فقال: (الله يحمينا هذا مريض حتى القمل يعافه) أي أنه رأى الحياة بلا قمل في الرأس نوعا من المرض المخالف لحياته الطبيعية التي عاشها في بادية الإجابة.

وأخيرًا نكرر أنه لا يمكن التخلص من عنت وسلوك أبناء بادية (الإجابة) إلا بالتواضع المعرفي فالمعرفة في حقيقتها متواضعة، (المعرفة متواضعة) نجدها في كتاب نشتريه بثلاثين ريالا بينما أبناء بادية (الإجابة) يرون في كل كتاب خارج (الإجابة) إما كتاب سحر أو زندقة يستحلون به دم من يجرؤ على (القراءة) في كتب مدينة (السؤال)، علمًا بأن (المعرفة) إذا لبست ثوب الواقع العملي تحولت إلى (سلطة) ولهذا تجد الناس بين اثنين أحدهما يعيش حياته على (معرفة السلطة).

أحد مديري الأندية الأدبية تعليقاته غير المفيدة في كل ندوة لا بد أن تعرج على أنه التقى أميرا أو وزيرا بلا معنى لهذه المعلومة في سياق الندوة سوى حياته التي عوض فيها عجزه عن امتلاك (سلطة المعرفة) فاتجه إلى (معرفة السلطة)، وآخر يملك (سلطة المعرفة) كأحد أهل الحل والعقد في مدينة (السؤال) فيجلد بلا رحمة أبناء بادية (الإجابة المغلقة) الذين ملأوا المشهد الثقافي ليمارسوا داخل مدينة (السؤال) كل التشويهات التي نقرأها في علم الاجتماع عن (ترييف المدن) في الوطن العربي الكبير، فيتهمونه بأنه عاشق لجلد الذات، بينما كل ما فعله لا يتجاوز تنبيههم لمستعمرات القمل في رؤوسهم، مما طعنهم في كبرياؤهم الثقافوية فارتدوا إلى شوفينية عمياء اعتبروا فيها القمل جزءا أصيلا من تراثهم وثقافتهم، ومن لا يوجد في رأسه مستعمرات للقمل مثلهم اتهموه بالخروج على ثوابت (بادية الإجابة)، فينفوه أو يقتلوه، وكذلك يفعلون.