إذا أردت أن تسعد مسؤولًا ما عن إدارة في مؤسسة، افتح له المجال للحديث عن إنجازات إدارته في أي جهاز حكومي أو حتى خاص، ما عليك سوى أن تجره للحديث عن معدل النمو أو تطور البنية التحتية أو ما شابه من موضوعات السباق في التحول الرقمي والأتمتة، فسيتحول عندها إلى حكواتي في مقهى ويبدأ بسرد الإنجازات ولا كأنه يروي بطولات أبو زيد الهلالي! عندها تكون قد فتحت على نفسك باب التكدر، بل تُعرِّض بشكل مباشر طبلة إذنك لكلام يطرق عليها حتى يكاد يخرقها بكل ما هو غير دقيق ومجافي للحقيقة، كثيره إن لم يكن جله.

المعضلة ليست في الصفوف الأولى من المفاصل الإدارية، بل تكمن في الصفين الثاني والثالث، وقد يكون من يليهما ممن يتواصلون مع المراجعين بشكل مباشر، فهم الذين ينفذون حزمة التشريعات والقوانين والتعليمات والقرارات التي من المفترض أن تنظم آليات العمل الإداري في المؤسسة، فإن لم يتمتع هؤلاء أولا بالأخلاق المهنية، ومن ثم فهم واستيعاب الهدف من هذه التعليمات وما سواها، نكون قد وضعنا المراجعين تحت رحمة مفاصل أصيبت بالروماتيزم البيروقراطي المزمن.

أصبحنا في سباق مع كل آخر حتى نثبت أننا مع الركب، بل في أوله، ولكن لنتذكر أن «ليس كل ما يلمع ذهبًا»! فحجم التعقيدات التي يتعرض لها المراجع الذي له حاجة عند هذه الإدارات تجعله أحيانًا يقذف بأوراقه في الهواء إن لم يمزقها ويرميها في أول حاوية للقمامة من اليأس!

ولأضرب لكم مثلًا على معاملة في إحدى هذه المؤسسات- لن أذكر اسمها- لكن بالفعل هذه الجهة تستحق جائزة البيروقراطية وبامتياز! رُفعت المعاملة في أول العام الماضي فمرت بدائرة إلى أخرى حتى وصلت إلى رأس الهرم، ومن ثم عادت بعد عدة أشهر وطلب من المراجعين التقدم بالطلب من جديد، حسنا تقدموا بالرفع من جديد ومرت مرة أخرى بالمسارات نفسها حتى رفعت إلى الجهة المسؤولة في الوزارة، تنفس المراجعون الصعداء بعد مرور عام حتى وصلت إلى هذه المرحلة، والمفاجأة كانت أن المعاملة بعد أن مر عليها سبعة أشهر لديهم أعيدت إلى المؤسسة بناء على إصدار تعميمات جديدة، ووجبت دراسة الطلب حسب ما جاء فيها! وبدأت رحلة الدوائر من جديد؛ أي تقديم أوراق الطلبات للمرة الثالثة، ولنتذكر أن كل التناول كان إلكترونيًا، لكن هنالك من يجب أن يجتمع وهنالك من يجب أن يوقع وقد يكون مشغولًا باجتماعات أو حتى إجازة، وهنالك من يجب أن يرفع، ويحدث أن تُرفع الأوراق ناقصة ويتم التواصل مع المراجع حتى يعيد إرسالها وبهذا يزداد التأخير تأخيرًا، وعندها يكون قد مر على المعاملة أكثر من سنة ونصف ولم يتم البت بها، فإن كانت الأتمة قد أتت لتقضي على البيروقراطية فما الذي حدث إذن؟!

هل أتحدث عن مؤسسة واحدة؟! للأسف ما سبق ليس إلا مثالًا من العديد غيرها يتم التعامل مع المراجع بالآلية والطريقة نفسها، والمراجع الذي كان كله شغف وحيوية ليكمل المسيرة في العطاء يخرج رافعا يديه شاكرًا حامدًا أنه خرج بأقل الخسائر رغم أنه لم يتلق أي احترام لشخصيته الاعتبارية ووقته وعمره، فإن ما حدث له لا يتواكب مع ما سمعه من مميزات التطور التقني والحديث الذي لا ينتهي عن الإنجازات التي يطربوننا بها عبر غالبية وسائل التواصل!.

نريد التغير، بل نفرح ونفخر به، ولسوف تجدنا نتغنى بنجاحاته قبل المسؤولين عنه، لكن حقًا إن لم تنعكس كل هذه التغييرات على المفاصل التي من المفترض أنها تتواصل مع المراجع لإتمام أوراقه والبت فيها، فمتى وأين سوف تنعكس؟!. هذه البيروقراطية المتخفية خلف الأتمتة سوف تضر بالكثير ممن لديهم شغف وقدرات عالية للمساهمة في بناء الوطن، ولا ننسى ما ذكره سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في آخر مقابلة له عن أهمية الشغف والدور الذي يلعبه في البناء حيث قال: «أختار فريق عملي والوزراء والقادة بناءًا على ما يملكونه من شغف، فالشغف هو المحرّك الأساسي للإنجاز والعمل بالإضافة إلى الكفاءة والعلم». في النهاية هنالك بيروقراطية ما زالت تنخر في جسد المؤسسات فإن لم يوضع لها حد سوف يمتد هذا الخطر حتى يصل إلى جسد الوطن!.