في البدء كانت الكلمة، ثم شوهت الكلمة وحرفت عن مقاصدها وفهمت خطأ، ونحن الآن ندفع ثمن كل ذلك عداً ونقداً. ندفع ثمن تشويه رسالة القرآن الكريم والإسلام الحنيف. وبالتالي فلا بد من تصحيح الكلمة: أي الفكر والعقل ذاته. دعوة يقدمها هاشم صالح في كتابه "من الحداثة إلى العولمة". ولإيماني بارتباط الفلسفة بالأخلاق، وأنها أساس تنظيم أخلاقيات الفطر السليمة، سعدت جداً بقراءة مقالة الزميل القدير والباحث الشرعي عبدالله العلويط "قاعدة فقهية جديدة لتحريم الزواج السياحي" التي انتقد فيها ارتباط تناول ظاهرة زواج المصيف والسياحي بقدوم الصيف، وكأنها جزء من المناشط الصيفية لا ظاهرة بشعة لابد من تضافر الجهود لدراستها وبحثها إلى أن تزول تماما، كاشفاً ازدواجية المعايير في مسألة الفضيلة التي نتغنى بها، كفضيلة أيديولوجية لا فضيلة إنسانية بعيدة المدى، مبيناً أن ما يمارسه البعض في الخارج أمر يبعث على الخجل.

واستغرب الباحث ـ رغم الإحصائيات التي تشير لوجود مواليد مهجورين واستفحال الظاهرة وخطورتها ـ قلة التوعية في منابرنا الدينية والإعلامية، قياساً بحجم محاربة دمج الأطفال من الجنسين في التعليم، وعدم ارتقائها لتكون وسيلة لإعطاء المحاربين لها تزكيات واحتلالهم أماكن اجتماعية مرموقة، بناء على ما قدموه في حفظ الأعراض، كما هو الحال مع من يحارب تلك الجزئيات الصغيرة.

وأرجع ضعف محاربة الظاهرة لغياب الفقه التجديدي ووضوح الحكم الفقهي تجاهها، فلم تخرج فتوى تبين أنها حيلة من حيل الزنا لا غير، وأن إثم الزنا أقل منها، مشيراً إلى عدم المهارة في إنزال الخلاف على الواقعة، الذي هو بأهمية إنزال النص على الواقعة، كما استنكر أدبيات تحريم تلك الزيجات بصياغة تبريرية خالية من توضيح القاعدة الفقهية والحكم تجاهها، كقولنا "يتنافى مع الأخلاق، أو لو علمت الزوجة وأهلها لما أقدموا على تزويجه"، فهذه الأدبيات لا تكفي للتحريم، وتوحي للمتلقي بأنه خطأ أخلاقي لكنه ليس نكاحاً فاسدا.

ثم فرق - وباقتدار جليّ- بين صورتين لهذا الزواج، إحداهما: التي يكون فيها تواطؤ من الزوج والزوجة وهي الدعارة المقنّعة، والثانية خداع امرأة عفيفة، وأنها أشنع لاحتوائها على زنا وحيلة وغش، بخلاف الأولى، المحتوية على زنا وحيلة فقط، فالثانية زنا في حق الزوج فقط، ووصفه بالزنا أتى في القرآن، فما من موضع يجيز فيه القرآن الزواج إلا ويعقبه قوله تعالى (محصنين غير مسافحين) أو (محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان) فهذه الآيات تبين بشكل جلي حرمة السفاح على شكل زواج، فقوله (محصنين غير مسافحين) أي قصدكم "نيتكم" الإحصان لا السفاح في ذلك الزواج، ولا يمكن أن يكون هناك سفاح في زواج إلا بالتحايل والتوقيت، وقوله تعالى (ولا متخذي أخدان) للصورة الثانية، لانطباق مفهوم الخدن عليها.

وختم باستغرابه لتفسير المفسرين لمعاني تلك الآيات حيث نُظّر لها على أنها نهي عن الزنا، وهذا تفسير منفصل تماماً عن سياق الآيات التي تتحدث عن الزنا في الزواج، وهي الصورة المنتشرة الآن.

هذا البحث القيم المتعلق بجوهر الأخلاق، أعني (النية الطيبة) خاصة في الآيات الاستدلالية ذكّرني برؤية الفيلسوف لها، بل أبرز فلاسفة الأخلاق إيمانويل كانط المنظر الأكبر للحداثة الفلسفية، وهو إنسان مؤمن بروتستانتي لوثري، يهتم بجوهر الدين الروحاني والأخلاق التنزيهية المتعالية، فكان لجانب عبقريته الفلسفية يجمع النزاهة والطهارة والاستقامة في السلوك وحب الخير للبشر جميعاً.

ولأن كانط كان تقياً وورعاً في حياته الشخصية، كانت الأخلاق تحتل مكانة كبيرة في فكره: إذ لا قيمة للعلم لديه بدون أخلاق، فانطلق في تأسيسه للمبادئ الأخلاقية العلمية من مبدأ عام وأساسي أن النية الطيبة أو الإرادة الخيرة هي أساس الأخلاق. فبدون نية طيبة لا أخلاق، وجملته الشهيرة خير مؤسس أخلاقي عالمي، يقول: تصرف فقط وأنت تفكر كما لو أن عملك سوف يصبح قاعدة كونية وينطبق على كل البشر "وهكذا ينبغي ألا أكذب وألا أسرق، لأني عندما أكذب ينبغي أن أفكر فوراً وماذا لو كان جميع الناس يكذبون؟ وهل تستقيم الحياة في بحر من الكذب؟ وإذا سرقت فكما لو أن جميع الناس يسرقون؟...الخ. هذا هو المبدأ القطعي أو الأمر المطلق الذي لا ينبغي على أحد أن ينتهكه". وعلى هذا النحو يؤسس كانط نظامه الأخلاقي الصارم القائم على فكرة الواجب والتفكير بالمصلحة العامة باستمرار والانعتاق من الذاتية والأنانية.

ويرى كانط: أن الخطأ يكمن في استسلام الإنسان لنزعاته وشهواته، ولكن عندما ننصاع لها فإننا نعرف أنه ينبغي ألا ننصاع، وهكذا نظل نحترم القانون الأخلاقي حتى ونحن ننتهكه، وهذه قاعدة عظيمة ترسم المقياس السليم للحق، لا على أساس الهوى بل الحق، وهو مقياس توجيهي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ينطلق من "الإثم ما حاك في صدرك" و "إنما الأعمال بالنيات" إلى أن نصل لقاعدة تالية أرقى هي "استفت قلبك"، أي ضميرك وأخلاقك، وهي محتوى الأسئلة التي أوردها كانط لمن يريد انتهاك القانون الأخلاقي.

إن الحياة الفلسفية تعني أن نعيش مع العقل أو طبقا لمبادئه ولكن الفلسفة تعني أيضا طرح أسئلة جذرية على الواقع أو المجتمع أو السياسة أو التاريخ، فنتساءل اليوم عن ثورات هجومية طالت الشيخين الغامدي والكلباني على حكايات تافهة لا تكاد تخرج عن قائمة المختلف عليه إن لم يكن مالا يلتفت إليه، بينما أوضاع مشينة لهدم الأسر وزعزعة كيانها واستقرارها، لا نجد من يطالب حتى بمراجعتها، بل طالب البعض بالحجر على مبيح الغناء والاختلاط وكأنهم نهبوا المال العام وأكلوا حقوق الزوجات واليتامى، وعاثوا ظلماً وجوراً، ورغم المآسي التي ولدتها كل أنواع الزنا المندسّة تحت الظلم والظلْمة باسم الزواج ما سمعنا رجوعاً للحق عنها، ماعدا همهمات خافتة لا تلتقي وعظم أمر الزواج "ميثاقا غليظاً".

وإن بمناسبة الصيف؛ أما آن لأحد المعتدين على الشيخين ليهاجم هذا الهزء بالإنسان وأخلاقه (المسيار وشلته)، وألا يكفيهم لقبحه أن يضم بين جنباته أسوأ أخلاق المرء: الكذب والتخفي والتحايل، وتضييع الأمانات، وأما آن لمن أباحه أن يدرك تشويهه للدين قبل أن يكون لأخلاقيات أهله؟!

يتساءل الفيلسوف تودوروف هل يمكن التوصل إلى قيم مشتركة كونية بين جميع البشر؟ وللإجابة: لنفكر في علاقة رؤية كانط الأخلاقية، باستدلال الباحث عبدالله العلويط، وبارتباطهما باستفت قلبك، وإنما الأعمال بالنيات، علها تفتح باباً أخلاقياً عالمياً، فقيم الأديان الكبرى واحدة.