إذا كان العالم الإنجليزي تشارلز داروين يقول إن «البقاء على قيد الحياة ليس للأنواع الأقوى، ولا الأذكى، وإنما لمن كان أكثر استجابة للتغيير»، فإن هذا التغيير هو نفسه الذي قاد إلى انحسار شديد في المطبوعات الورقية والإعلانات الورقية، وهو ما كثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة، ووضعه تحت إطار من الحديث عن اتجاه الصحافة الورقية نحو الاحتضار، بدليل ذاك الكم الذي أقفل منها أو على الأقل لحق ركب التطور وتحول إلى العالم الإلكتروني.

ولعل تراجع المبيعات في الإعلام الورقي والذي بدأ منذ فترة طويلة جدا جدا، كان يؤكد هذا الاتجاه، فمنذ مطلع القرن تراجعت مبيعات الصحف والمجلات في بريطانيا مثلا نسبة الثلثين خلال الـ20 عاما الأخيرة، وتراجعت مبيعات صحيفة «الجارديان» بنسبة 67 %، فيما تراجعت مبيعات الـ«صاندي بيبول» بنسبة 91 %.

الصفحات الثقافية

طال انحسار الصحافة الورقية على وجه الخصوص، الصفحات الثقافية في الصحف، فمع التوجه نحو تقليص عدد الصفحات لتخفيف تكاليف الطباعة، نال التقليص في الدرجة الأولى الصفحات الثقافية.

واختلفت آراء المثقفين حول جدلية الصفحات الثقافية بين تراجعها بسبب المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، ورونقها الذي لا يتقادم، والذي أسس لنشوء الفكر والحراك الثقافي المحلي أوالعربي والعالمي، والسؤال المطروح اليوم: هل نحتاج إلى صناعة الثقافة وتشجيع المثقفين وإنشاء مجتمعات وأجيال مثقفة بطبيعتها، تؤمن بالتنوع وتحترم الآخر وتقدم حراكها الثقافي بطريقتها العصرية أوالتقليدية؟

الثقافة نخبوية

حول مبررات تتحدث عن أن الثقافة نخبوية، وبالتالي فإن الاهتمام بها لم يعد يعني كثيرين ولم يعد يسوّق، قال الزهراني «أما كون الثقافة نخبوية فالأمر يرجع إلى القضية في حد ذاتها، وطبيعة الثقافة أنها نخبوية، ولا يمكن إلا أن تكون كذلك، ثم ما كان يصلح أن يطرح على جميع الطبقات فينبغي أن يكون في المتناول من جهة تبسيط القضية في الطرح والبيان، وأن يتعامل معها مثل توضيح اللوائح والأنظمة التي تهم جميع الناس، ثم ينبغي على المثقف الذي يريد طرح موضوع معين أن يراعي متلقيه حسب القضية المطروحة، لكن أن نزعم بالتباسط في كل شأن ثقافي فذاك أمر لا يمكن، فمن يتناول جوانب فكرية لا يمكن له إلا أن يكون نخبويا لأن نسبة من يتعاطى الجانب الفكري هم النخب».

لافتا إلى أن الزمن بطبيعته يتغير نظرا لتنوع مصادر التلقي، فلم تعد مصادر التلقي واحدة في ظل الانفتاح مع قنوات التواصل، ومن هنا فإن الموجه اليوم الذي يريد صب الناس في قالب لم يعد ممكنا، لذا فالحالة اليوم عاتية بحاجة إلى استيعاب لكل الشخصيات التنفيذية التي ينبغي أن تعي ذلك، وأن تمسك بزمام المبادرة لتوجيه المجتمع نحو التعدد غير المصادم للمسلمات الدينية، وأن المسؤولية كبيرة على ماسك القرار الثقافي أن يواكب حركة المجتمع نحو الأفضل».

3 ركائز

بينت خوقير، أن الحياة الثقافية تعتمد على ركائز ثلاث، إذا أصاب إحداها خلل تداعت لها الأخريان بالركود، فالثقافة تقوم بالدرجة الأولى على الإنسان الذي يستقي معلوماته من الكتب والتلفاز، وكل ما حوله من بشر وأحداث ومرئيات فينسق بينها، ثم يسجلها، إما في الكتب أو الصحف، فيتداولها الناس، وتنتشر بينهم، فيزداد وعيهم وثقافتهم، أي أن العنصر البشري هو الذي يُعتمد عليه في ازدياد الثقافة والوعي بين أفراد المجتمع، وينظر إليهم على أنهم شعب مثقف، ولو تساءلنا عن الذي يتحكم في ازدياد الثقافة أو الوعي لدى شعب عن آخر، فهذا يعتمد على نشاط العنصر البشري في تلقي المعلومة من الكتب أو أخبار العالم من التلفاز، ثم نقلها إلى الصحف، وبالتالي إلى الناس ثانية بحركة دورية، تستمد عناصرها من الأحداث التاريخية والأشد تأثيرا هي الجائحات كانتشار الأوبئة أو الحروب وكل ما يحرك دوران المحاور الثقافية السالفة الذكر، مستدركة بأن أي ركود في مجريات الحياة فإنه يؤثر سلبا على النشاط الثقافي بين المحاور ويتمثل في قلة إقبال الناس على قراءة الصحف، لانشغالهم بمتابعة التلفاز، ولكن ثبت باليقين أن تطور العلوم والاكتشافات والاختراعات ونحن في عصر التكنولوجيا هي أكبر دعم لمحاور النشاط الثقافي، بحيث تظل منفتحة على ثقافات العالم، وهذا أكبر دعم لها».

استجابة لتراجع الصحف الورقية

انخفاض حجم مبيعات الصحف في المغرب في أقل من 7 سنوات

من صحف المغرب توقفت

50 %

58 %

200

10

60

معاناة الصحافة الورقية

ملايين عدد نسخ الصحف التي انخفضت في اليابان منذ 2000

صحيفة يومية وأسبوعية توقفت في الجزائر منذ 2014

صحيفة محلية اختفت في بريطانيا منذ 2005

التخلي عن النخبوية

بينت العميري أن بعض المثقفين تخلوا عن النخبوية ونزلوا بذكاء إلى العامة، فيما بقي بعضهم في برجه العاجي، وقالت «كانت الثقافة سابقًا نخبوية، وقد سقطت بفعل التطور التواصلي كما ذكرت سابقًا، لم تعد هناك نخبوية فقد نزل بعضهم بذكاء للعامة، وبعضهم ظل في برجه العاجي، ولم يعد أحد يلتفت إليه كالسابق بيد أن بعض الصحف ما زالت تتمسك بهذه الشخصيات النخبوية وتضع إطارًا حولها مما سبب نفور القراء وبعدهم عنها». واستدركت «أظن أننا نحتاج لبعض الشخصيات القيادية في مثل هذه القنوات الصحفية أو التلفازية لتجديد دماء المستضيفين ومعدي البرامج، ولأفكار مبدعة للخروج من هذا المأزق التراجعي، فضلًا عن الالتفاف إلى أكبر عدد من الأدباء والمثقفين وعدم التنصيص على عدد معين يكرر بشكل ممل».

تحطيم أسوار الشلة

ترى الأستاذ المشارك في قسم الأدب في جامعة أم القرى الدكتورة أمل العميري أن الصفحات الثقافية عانت من أسوار الشلة الثقافية التي تعتمد على تكرار بعض الأسماء دون سواها، ومن كان يخترق هذه الشلة، أو يجد طريقه بينهم قد صنع إعجازًا كبيرًا.

وقالت العميري لـ«الوطن» «تطور التكنولوجيا وتعدد قنوات التواصل الاجتماعي أثر كثيرًا في تراجع الصحف بشكل عام، فكيف بالصفحات الثقافية؟ فقنوات التواصل الاجتماعي حررت الصحف والصحافة الثقافية من قيود كان يراها بعض الكتاب والمثقفين عائقًا لهم».

وأضافت «هذا التطور أثر فعليًّا على التراجع الثقافي في الصحف والتلفاز، وإن كنت أظنه ليس ذريعة لتتراجع، فهناك بعض الصحف واكبت ذلك التطور وما زالت تنتج صفحات ثقافية إلكترونية وتنشر روابطها وحساباتها عبر قنوات التواصل الاجتماعي، إذن هناك من يسعى للمواكبة والتطوير، وهناك من استسلم وتراجعت صحف عن النشر ...

تغيير الإيقاع

أكدت الدكتورة العميري أن «تغيير إيقاع الزمن وتسارعه بشكل مذهل ترك أثره على بعض التغطيات الصحفية التي أصبحت سريعة، خاصة في ظل تعددية القنوات الناشرة التي تتسابق في إحداث الضجات لتلفت الأنظار، وإن كانت هذه التغطيات تختلف من قناة لقناة سواء صحفية أو تلفازية من حيث اختيار الشخصيات وإثارة المواضيع الثقافية كما نرى ذلك في معارض الكتب والفعاليات الثقافية المصاحبة له، لكن أقولها حقيقة لم يعد هناك متابعون كثر كما كان في السابق، فالأغلبية تكتفي بالخبر السريع المنشور في القنوات الاجتماعية أو عبر حساب الشخصية المثقفة، وبلا شك أن الجوائز تعطي حافزًا لصناعة مجتمع مهتم بالثقافة لكن قبل ذلك علينا أن نعد الفرد المثقف، ليؤثر على غيره فنكسب مجتمعًا ثقافيًّا، ولن يتأتى هذا إلا عبر تغييرات في منظومات تعليمية واسعة تجتهد لتساعد الإنسان على امتلاك شغف الثقافة وتعدد مشارب العلم والمعرفة في حياته ليتطور ثم ينتج».

معاناة الصحافة الثقافية

تعيش أزمة عاصفة منذ فترة طويلة.

غياب القراءة الحقيقية والمسؤولة للمشهد الثقافي وأهميته.

سيادة الفكر الرِّبْحي (المادي) على عقلية المحررين الثقافيين.

المهنة عمومًا تعيش حالة أزمة.

الصحافة الثقافية انعكاس للحالة الثقافية العامة.

إنتشار الإلكترونية قلص قراء الصحف الورقية.