الحمد لله، من قبل، ومن بعد، على نعمة الوصول لشهر الخيرات والبركات، وانقضائه في صحة وعافية، أعاده ربي بالسرور والحبور، ورحم من لم يعد عليه، إنه السميع المجيب.

رمضان الأغر، يُعرف بأنه شهر القرآن، بدليل قوله عز وجل، في سورة البقرة: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ..﴾؛ وأريد هنا أن أتوقف عند معنى من المعاني القرآنية الجميلة، والمثيرة عند من ملَّكه الله كل البصيرة، أو بعضها.

يذكر الإمام السيوطي، في كتاب «الدر المنثور في التفسير بالمأثور»: «أخرج ابن سعد وأبو نعيم عن أبي قلابة قال، قال أبو الدرداء: إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها»، وعن عكرمة قال سمعت ابن عباس يحدث عن الخوارج الذين أنكروا الحكومة فاعتزلوا علي بن أبي طالب، قال فاعتزل منهم اثنا عشر ألفا، فدعاني علي فقال: «اذهب إليهم فخاصمهم وادعهم إلى الكتاب والسنة، ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة»، وعن عمران بن مناح، قال فقال ابن عباس، يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم؛ في بيوتنا نزل، فقال: «صدقت ولكن القرآن حمَّال؛ ذو وجوه، يقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنن فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا، فخرج ابن عباس إليهم فحاجهم بالسنن فلم تبق بأيديهم حجة»؛ ولست محتاجًا للتفنيد الروائي، ولا لبذل الجهد في التضعيف الحديثي، عما نقلته، وأتعجب ممن يحاول ادعاء خطر ذلك، أو زعم أن صحته نقض للإجماع على أن القرآن المصدر الأول للتشريع، وأن ثبوته يعني أنه ليس هناك معنى لوصف القرآن بأنه نور وكتاب مبين‏، وكلام آخر طويل.

عبارة «للقرآن وجوه»، وعبارة «القرآن حمال أوجه»؛ لا يفهم منها أن القرآن بذاته حمَّال أوجه، أو أن الله أنزله ليجعل الناس حيارى، أو للتيه في الدروب، أو أن يسقط كل واحد منا فهمه، على كلام ربه، أو يحتج بما يريد، كما يريد؛ هذا كله غير وارد، والذي نور الله تعالى بصيرته، يعرف أن زوايا النظر للقرآن مختلفة، فهذا يفهم شيئا، والآخر لا يفهمه، وفي ذلك يقول الحق في سورة «الإسراء»: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ..﴾..

يقول الإمام الزركشي، في كتاب «البرهان في علوم القرآن»: «كان لسيدنا علي بن أبي طالب فيه اليد السابقة -أي في التفسيرـ قبل سيدنا ابن عباس، وهو القائل: لو أردت أن أملي وقر بعير على الفاتحة لفعلت»، ويقول عن العبارتين السابقتين: «تحتمل معنيين أحدهما أن من ألفاظه، أي القرآن، ما يحتمل وجوها من التأويل، والثاني أنه جمع وجوها من الأوامر والنواهي، والترغيب والترهيب، والتحليل والتحريم»، ويقول الشيخ ابن تيمية في «الفتاوى»: «رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّك لَا تَفْقَهُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى تَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا.. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ سَلَفُهُمْ وَخَلَفُهُمْ فِي مَعَانِي الْوُجُوهِ وَفِيمَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ وَمَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا؛ فَعُلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُمْكِنُ الْعُلَمَاءُ مَعْرِفَةَ مَعَانِيهِ، وَعُلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ مِنْ الْقُرْآنِ مَا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ، وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ..».

أختم بذكر أن فهم القارئ للقرآن شيء، واحتمالات ما قرآه شيء آخر، والاحتمالات، أولًا وآخرًا، لا يمكن نسبتها للآيات القرآنية، داعيًا الله أن يتقبل منا الصيام بعفوه ورضاه، ويعيننا بعده على ما يرضيه، إنه ولي ذلك، والقادر عليه.