غياب صوت العقل عن معظم القضايا والأزمات فى المنطقة العربية مسألة قديمة/ جديدة، فالمزايدات والأصوات المتشنجة والمحرضون، من تنظيمات وأنظمة، اعتادت أن تقتات على الأزمات فى منطقتنا، مستمرة، حيث يجيد هؤلاء الظهور حين تشتعل ألسنة اللهب، كما حدث بين الفلسطينيين وإسرائيل فى الآونة الأخيرة، إذ وجدت التنظيمات المتطرفة والقوى الراديكالية، التي تعد سببا أساسيا من أسباب غياب الأمن والاستقرار الإقليمي، فى هذه الأزمة ضالتها، فمارست التحريض فى أبشع صوره، إعلاميا وسياسيا، واستغلت التصعيد بغزة فى تصفية حسابات سياسية مع قوى كبرى، كما فعلت تركيا مع الولايات المتحدة، أو توظيف الأزمة فى إثبات نفوذها، وذراعها الطولى التي تنخرط فى مجمل بقاع التوتر الشرق أوسطية!.

غياب صوت العقل والمنطق لا يقتصر على بيئة العلاقات الإقليمية والدولية، ولكنه يمتد ليشمل وسائل الإعلام، وبالطبع وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحولت بين عشية وضحاها إلى ساحات تعربد فيها تنظيمات التطرف وعناصرها وكتائبها الإلكترونية، التي استغلت الأزمة فى محاولة التشكيك بمواقف وسياسات الدول العربية والإسلامية.

وعلى الرغم من هذه الأجواء الصعبة والمعقدة، فالكتّاب والمحللون يجدون صعوبة شديدة فى التعبير بموضوعية عن رؤيتهم للأحداث، والسعي لتقديم رؤى ومقترحات مفيدة لطرفي الصراع بدلا من الانخراط وسط هذه الزوبعة من الضجيج، وتوزيع الاتهامات على هذه الدول أو تلك.


القضية الفلسطينية تبدو ـ من وجهة نظري ـ من أكثر القضايا الإقليمية والدولية حاجة إلى ترجيح العقل والموضوعية، من أجل بناء مقاربة قابلة للتحقيق على أرض الواقع، فى ظل فشل جميع الصيغ والمبادرات والجهود التي استهدفت تسوية هذه الأزمة سياسيا منذ بداية أولى خطوات السلام العربية ـ الإسرائيلية بتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل فى منتصف سبتمبر 1978، حيث تمسكت أنظمة ودول معينة بمواقفها الراديكالية المعارضة أي تسوية سياسية مع إسرائيل،

ولم تزل هذه الأطراف على مواقفها، على الرغم من أنها لم تفلح فى تحقيق أي اختراق أو حلحلة للقضية عبر التحريض على ممارسة العنف وسفك الدماء، وذلك لأن الهدف الأساسي من التمترس وراء هذه المواقف ليس دفاعا على الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، بل استغلال لهذه القضية فى المتاجرة سياسيا، وابتزاز العالم، وانتزاع المكاسب دون أدنى حرج!.

المعروف أن الحرب هي وسيلة لتحقيق السلام، وأن إشعال الحروب أسهل بكثير من صنع السلام، فالسلام يسعى إليه من يمتلكون رؤى مستقبلية للتنمية والبناء، ولكن الأنظمة التي تحاول الخروج من أزماتها الداخلية عبر صرف أنظار شعوبها إلى أزمات وصراعات خارجية، أو تلك التي لا تمتلك أي مشروع تنموي من الأساس، وتوجه موارد شعوبها نحو تحقيق أهداف وهمية، لا تصب فى مصلحة هذه الشعوب، كل هذه الأنظمة تعمل دائما على تنفيذ أجندتها الخاصة، وتدرك تماما أن مسؤوليتها عن أي تصعيد، قد يسفر عن سفك دماء الفلسطينيين، تكاد تكون معدومة. الحقيقة أن مراجعة شريط الأحداث فى أزمة غزة الأخيرة تشير إلى نقاط عدة مهمة، أبرزها أن القضية الفلسطينية لا تزال فى صدارة اهتمامات الدول والشعوب العربية، وأن كل ما تروجه تنظيمات التطرف والإرهاب عن انحسار هذا الاهتمام يبدو مجرد دعاية رخيصة، لا تخدم سوى هذه التنظيمات، فالأزمة قد أثبتت ـ على سبيل المثال ـ مركزية الدور المصري، وأهميته فى كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وأن كل محاولات الانتقاص من هذا الدور لم تفلح فى تحقيق أهدافها.

فمكانة مصر ودورها التاريخي لا يزالان يضمنان لها لعب دور مركزي فى تحقيق الأمن والاستقرار، مهما تحاول بعض الأطراف تغيير قواعد اللعبة.

الحقيقة أيضا أن الكتابة بموضوعية وعقلانية فى موضوع الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، خصوصا فى أوقات التصعيد والتوتر، باتت مسألة صعبة للغاية، وتبدو أشبه بالسير فى حقل ألغام، وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تفتقر إلى القواعد والمعايير التي تحول دون الانزلاق إلى التجاوزات والسباب والشتائم، تعليقا على المقالات والآراء، فإن التعبير عن الرأي فى أوقات الأزمات بموضوعية وعقلانية، بحسب ما يراه الكاتب، ينطوي على كلفة كبيرة، لأن هناك من يحاولون إسكات صوت العقل، والتشويش على أي محاولة للتفكير بعقلانية فى أوقات الأزمات.

من المهم أن يستمع الفلسطينيون إلى حسابات المنطق والعقل بدلا من الإصغاء لأصوات التحريض التي تستخدم القضية والشعب الفلسطيني كـ«مخلب قط»، للانتقام من إسرائيل، وابتزاز القوى الكبرى من أجل انتزاع تنازلات فى سياسات هذه القوى.