أكتب مقالي من (جمهورية تركية) ـ الأصح كتابة تركية بالتاء المربوطة، وليس بالألف ـ حيث مكان انعقاد الجمعية العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ـ حضرت الجمعية بحمد الله ـ وما زلت في تركية، أكمل وأهلي إجازة بسيطة، أقتدي بها بنصيحة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسيدنا عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ ".. فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا ـ النوم ـ وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا ـ ضيوفك ـ .." رواها البخاري، وروى مسلم "وإن لولدك عليك حقا". وأقتدي أيضا بمقولة ـ لا أعرف قائلها ـ مفادها: "من لم يعطل وقت التعطيل، لم يحصل وقت التحصيل".

لا أدري لماذا خطرت لي (القهوة التركية) وأنا في وسط كتابة المقال، ربما لأني أرتشفها الآن، وربما لأنها من العلامات الفارقة في الثقافة التركية، وربما لما تحتويه من دروس تاريخية، وعبر دينية.

دينيا، ضر القهوةَ كثيرا، مرادفها اللغوي؛ (الخمر) ـ قال العالم الموسوعي الفيروز أبادي ـ تلميذ الأئمة ابن القيم، والسبكي، وابن نباتة، وابن جماعة. وشيخ الأئمة ابن حجر، وابن عقيل، والأسنوي ـ في المعجم الذائع الصيت؛ (القاموس المحيط والقابوس الوسيط لما ذهب من كلام العرب شماميط) والشهير بـ (القاموس المحيط) 1/231: "القهوة الخمر.. سميت بذلك لأنها تقهي أي تذهب بشهوة الطعام". ـ مما حدا بالفقهاء آنذاك إلى تحريمها، ثم ما لبث حكمهم عليها بالتحريم فترة، إلا ووفقهم الله إلى جعلها حلالا لهم، ومحرمة ثم مكروهة على غيرهم من النساء، وصغار القوم، و"أحداث الأسنان". حتى إن الواحد منهم كان يمضمض فاه بعد احتسائها، لتغيير رائحتها، خوفا من (التعزير) على شربها. ثم تطور الأمر بعد ذلك فصارت القهوة حلالا محضا، للكبار والصغار، وللرجال والإناث في آن واحد، حتى أصبحت علامة من علامات إكرام الضيف.

(حبوب القهوة) التي تستخرج من (نبات البن) من (بدع الزمان)، لأنها لم تعرف لا في الجاهلية، ولا في صدر الإسلام، ولا في العصر الأموي، فظهورها ـ حسب أغلب المصادر ـ كان في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي. ويقال إنها تعتبر حسنة من حسنات راعي غنم ـ خالد ـ من (اليمن) أو (إثيوبيا) ـ الحبشة سابقا ـ اكتشف أثرها النشط على (قطيعه)، وهو يرعاه في بلدته، فجربها على نفسه، فوافقت فراسته ونشوته، فلزمها، وأوصى غيره بها.

من المحاذير المهمة، وخصوصا للمسافرين، ألا يحاولوا طلب (القهوة التركية) بهذا الاسم، في (اليونان) فالخصومة على التسمية بين الدولتين على القهوة، لم تحسم حتى الآن ـ مثلها مثل الخصومة على (البقلاوة) أو (راحة الحلقوم) هل جنسيتهما تركية، أم أنهما قبرصيتين؟ ـ وللعلم ـ وبمناسبة فعاليات كأس العالم ـ أنقل قول الخبراء بأن شرب أربعة أكواب من القهوة المركزة قبل نصف ساعة من بداية المباراة، قد يوقع اللاعب في دائرة المنشطات الممنوعة.

تركية اليوم تعيش حالا منعشا ـ كحال المحب للقهوة ـ على كافة الأصعدة، وأسباب ذلك معروفة، ويمكن أن ترى ذلك واضحا في جميع ما حولك، وفي كل من حولك. أخيرا آمل أن تدعوا معي وتؤمنوا: غفر الله لمن حرم القهوة، ورحم من كرهها، وبارك فيمن حللها، وكفانا شر الإكثار منها، ونور بصيرة كل من يتصدى للحكم على الأشياء قبل كمال تصورها.