فمما نتفق عليه مع حماس: حق الفلسطينيين في مجاهدة المحتلين، ووجوب أن تبقى روح الجهاد متوقدة ، وأن تكون قضية فلسطين متحركة دائما عربيا وإسلاميا ودوليا، وتبقى هي الأولى في نفوس المسلمين رغم تعدد قضاياهم وتكاثر همومهم.
وحينما يكون الجهادُ جهادَ دفعٍ لا جهاد طلب، فلا تُشترط القوة المكافِئة للعدو؛ بل جهادُ الدفع في حال الضعف متردد بين الجواز والوجوب على حسب ما تقتضيه المصلحة المظنونة للمسلمين ومدى النكاية في العدو؛ لكنه لا يحرم إلا إذا عُدِمت مصلحته وتحققت مضرته.
وما يحصل في فلسطين اليوم هو جهاد دفع لا جهاد طلب، فالعدو مستولٍ على الأرض والأنفس والأموال والمقدَّرَات.
ففي كل ما تقدم لا أقول إننا نتفق مع حماس؛ بل أقول إن حماس تتفق معنا فيه أو تدعي ذلك، فهذا ما عليه أهل السنة والجماعة .
وهذا الأمر الذي نؤمن به أشد الإيمان هو ما يزايد علينا به ويَدَّعِي علينا ضِدَّه مَن تطرفوا في حب حماس، أو من انخدعوا بهذه الحرب الأخيرة وما قبلها.
وإيمانُنا بالجهاد، لا يمنعنا من التأكيد على أن بقاء المجاهِد وحده خير له من حليف غادر كاذب لا يؤمن بحقه في مجاهدة عدوه ولا يُخلص له؛ بل الواجب التخلص من هذا النوع من أدعياء الحِلف، فقد أخبر الله بحالهم حين قال ﴿لَو خَرَجوا فيكُم ما زادوكُم إِلّا خَبالًا وَلَأَوضَعوا خِلالَكُم يَبغونَكُمُ الفِتنَةَ وَفيكُم سَمّاعونَ لَهُم وَاللَّهُ عَليمٌ بِالظّالِمينَ﴾ ، وهذا مما نختلف فيه مع حماس، ونقوله عن علاقتها بالعدو الصفوي الإيراني، فإن لدينا من الإيمان الذي يستحيل أن يتطرق إليه في قلوبنا الشك بأن إيران لا ولن تعمل لمصلحة قضية فلسطين، فيقيننا الصادق أنها لا تسعى إلا لما فيه صالح الصهاينة وعزهم وتمكينهم منذ أن قامت عام 1399 للهجرة وحتى يومنا هذا.
ولدينا على ذلك العديد من الأدلة القطعية، منها حربهم التي بدأوها من أول أيام حكمهم على عقيدة أهل السنة، ومشروعُهم الكبير في صرف أهلها عنها ليُحِلوا محلها عقيدة الأثني عشرية التي نص عليها دستورهم، وهي عقيدة ثبت في مدوناتها وتاريخ أهلها أنها لا تعادي اليهود ولا تقدس فلسطين.
ثم كانت محاولاتُهم العديدة لإحداث الفوضى في مكة المكرمة والمدينة، ومن يروم الإفساد في الحرمين، لن يروم الإصلاح في أُولى القبلتين، ثمَّ حربُهم على العراق التي أرادوا من خلالها إفراغه من أهل السنة وتهيئته لإسرائيل الكبرى، فلمَّا لم تنجح حربهم عبر قُوَّتهم الذاتية سَلَّمت الولايات المتحدة لهم العراق، وقاموا وما زالوا يقومون بهذا العمل نيابة عن الصهاينة، وكان طرد الفلسطينيين أولَ ما بدأوا به من أعمال إفراغ العراق من أهل السنة، وزادوا على ذلك بإفراغ الشام من أهله، سورية ولبنان، وللتذكير فقد كان فلسطينيو مخيم اليرموك في دمشق أول ضحايا الإيرانيين في سورية، ولو تهيأت لهم الفرصة لفعلوا بالأردن ومصر الفعل نفسه لإسقاط القوى البشرية والعسكرية والعقدية للدول المحيطة بالكيان الصهيوني، ولا تخفى خططهم لاستكمال ذات المشروع في السعودية عبر قلب الحكم في اليمن وتسليمه لعملائهم من الحوثيين الذين لم ينسوا مهمتهم الأساسية وهي التغيير العقدي، فظلوا حتى الآن وأثناء الحرب يعملون بقوة على التغيير العقدي بشكل ممنهج وطويل النَّفَس؛ ثَُم محاولاتهم العديدة لإثارة الفتنة دخل السعودية وشرقها خاصة، ودعم عملائهم في البحرين للانقضاض على الدولة، ويعملون اليوم على إيجاد قاعدة للحرس الثوري في منطقة النخيب العراقية المحاذية للسعودية.
وكل ذلك ليس إلا خدمة للكيان الصهيوني لإضعاف المنطقة بأسرها من أجل درء أي خطر محتمل عليه.
فإيران والولايات المتحدة والصهاينة، حلف واحد، كما أثبته بالوثائق تريتا بارسي، في كتابه التحالف الغادر.
وعزونا إلى هذا الكتاب لمزيد من اطمئنان القارئ، وإلا فالتحالف تثبته الوقائع.
ونقطة توافق هذا الحلف تغيير الخارطة العقدية للمنطقة بإضعاف أهل السنة بتهجيرهم وتشييع المتبقي منهم، وهدف الصهاينة توسيع دولتهم، وهدف الإيرانيين توسيع رقعتهم المذهبية، وهدف الأمريكان خدمة المشروع الصهيوني.
من أجل ذلك فإن أي تحالف مع إيران لتحرير فلسطين لا يمكن تصديقه، لأنه نقيض مشروعها الأصلي، فمن يتحالف مع الإيرانيين لتحرير فلسطين كمن يتحالف مع الصهاينة أنفسهم لتحرير فلسطين!
وحماس حين تفعل ذلك إنما تُكرر بشكل أعنف تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، فقد كان ياسر عرفات أول قائد عربي يزور إيران، ووصف ثورتها بالمُبَارَكَة وزلزال أصاب إسرائيل وضياء ووهج سيعم المنطقة كلها، ثم ماذا حدث؟
حدث أن إيران عبر منظمة أمل وراء ما أصاب الفلسطينيين من نكبات ومن أشهرها مذبحة صبرا وشاتيلا التي لا يعرفها شبابنا اليوم وقُتِل فيها أكثر من سبعة آلاف فلسطيني بينهم شيوخ وأطفال ونساء، ويمكن للقارئ مراجعة الوثائق المصورة على الشبكة الإلكترونية ومنها أفلام وثائقية من إنتاج قناة الجزيرة القطرية الداعمة لإيران ولحماس معًا، ليتحقق من مسؤولية إيران عن تلك الجرائم بالتعاون من جيش الصهاينة وجيش لبنان الجنوبي الموالي لهم، ثم انتهى أمر المقاومة الفلسطينية بإجلائهم إلى تونس.وقد وقع ذلك كله في أوج قوة ونفوذ الخميني الذي يدعو له قادة حماس ويمجدونه ويقول عنه أحدهم إن حماس خرجت من عباءته.
فهل تغيرت إيران حتى تتم الثقة بها بهذا الشكل؟
الجواب: لا، لذلك فإنني أؤكد أن حماس إن لم ترعوِ عن هذا التحالف فإنها تمهد لعشرات من صبرا وشاتيلا على يد اليهود والإيرانيين . بعض مسؤولي حماس ذكر أن قرار حماس مستقل، وقد لامني بعض الإخوة حين قلتُ في مقالي السابق: إن قرارها غير مستقل عن الإرادة الإيرانية، حتى جاء حديث يحيى السنوار مؤكدا التنسيق الكامل بينهم وبين مجرمي نصر الشيطان في لبنان؛ وبالطبع لن يقتنع كل من يعرف إيران أن الأمر مقتصر على التنسيق فقط، وعلى افتراض صحة ذلك فهذا التنسيق مقدمة للإملاء الكامل، لاسيما إذا استطاع الإيرانيون إيصال بعض الفلسطينيين المقتنعين بالتشيع وولاية الفقيه إلى مراكز قيادية، وهذا قد يكون موجودًا الآن، فنحن نشعر بالنَّفَس الصفوي عند بعض قيادات حماس كيحيا السنوار؛ الذي نَقَل بعضُ من كان معه في معتقلات الصهاينة أنه لا يرى فرقا في المعتقد بين السنة والشيعة، مما يعني على الأقل انخداعه بدعاية التقارب الصفوية إن لم يكن متأثرا بالفكر الشيعي كلِّه.
الانخداع بالصفويين سيكون أسهل كثيرا ليس على الفلسطينيين وحسب بل على كثير من العرب بسبب هذا التلميع العظيم الذي يقوم به قياديو حماس لإيران، وبلغ إلى ارتكاب حماقات وسفاهات كشكرهم للحوثيين، وهذا ما سيسهل اختراق أتباع إيران لحماس بشكل يجعل قرارها كاملاً بيدها، ومن ثَمَّ يبدأ العمل المباشر دون تقية لصالح المشروع الصفوي الصهيوني.
وإذا صحت الرسالة المتداولة من إسماعيل قاآني إلى السنوار فالإملاءات ليست توقعات بل واقع مأسوف عليه.
والسؤال هنا: أين المَخْرَج، إذا كانت الدول العربية السُّنِّيَة لا تدعم حماس، وإنما يأتيها الدعم من إيران كما يقول قادة حماس؟
الجواب: لن أُجادل هنا في مسألة: هل حماس ذهبت إلى إيران لأن الدول العربية تركتها، أم أن الدول العربية تركتها لأنها ذهبت إلى إيران، بل سأُسَلِّم جدلاً بصحة الفرض الأول لأقول: إذا تركت الدول السُّنِّيَّة حماس فليس لحماس أن تذهب إلى إيران، لأن إيران ليست عدوًا للعرب وصديقة لفلسطين كما يحاول خالد مشعل إقناعنا بذلك؛ بل عدو صادق العداء لفلسطين، وقد أكدت التجربة أن ميليشيات حسن نصر الشيطان ومنذُ أربعين سنة لم تتقدم في فلسطين شبرًا واحدًا ومازالت حتى اليوم لم تحرر أربعة كيلو مترات مربعة (مزارع شبعا) أقامت من أجلها ثلاثة حروب وهمية مع الصهاينة وخسرت لبنانُ بسببها مليارات الدولارات، ويُراد تكرار التجربة على يد حماس، لينتهي بها الأمر كما انتهى مع حزب الشيطان.
ليس من شرط المقاومة أن تكون بصواريخ محدودة الأثر؛ بل يمكن مقاومة المحتل شعبيا دون الحاجة لدعم دولةٍ أصيلة العداوة، ليعود الأمر كما كان في الثمانينات، وستكون نتائجها أعظم من نتائج حرب الصواريخ التي ضخمت نتائجها بشكل عاطفي كبير، وللمعلومية فإن الاستقلال النسبي للضفة والقطاع، والذي تحكم حماس تحت شرعيته كان ثمرة لتلك المقاومة الشعبية، وأما حرب الصواريخ فمنذ عام 2006 لم تستطع حتى فتح معبر واحد.
كادت انتفاضة الشيخ جراح أن تعيدنا لعصر الانتفاضتين لولا أن حرب الصواريخ وأدتها في مهدها، ومع أن قادة حماس كانوا يصرحون بأنهم لن يتوقفوا عن إطلاق الصواريخ حتى يلغي الصهاينة قرار منح الشيخ جراح للمستوطنين إلا أننا رأينا كل شيء توقف دون قيد أو شرط من الطرفين بعد إعلان بايدن في ليلة ليلاء.
لا يهمني أن يقول العالم كله إن حماس انتصرت؛ بل يهمني ماذا أجد على الأرض، غير الأمور المعنوية التي لا أنكر أثرها، لكن ما نقوله عن الانتصار المعنوي يستطيع الصهاينة أن يقولوا مثله، فيزعمون أنهم أحيوا قضية إسرائيل الكبرى في نفوس شعبهم، وأعادوا القناعة الدولية بمظلومية اليهود ، هذا إضافة إلى حصولهم على المال الكثير الذي كانوا وما زالوا بحاجته.
لكن هل رافق ذلك تحرير سنتيمتر واحد من فلسطين أو هدم متر من الجدار العازل أو فتح درفة واحدة من أي معبر بين غزة ومصر أو غزة وباقي فلسطين، الجواب: لا، إضافة إلى أن الصهاينة لم يغرموا من مالهم درهما واحدا لإصلاح ما أفسدوه من دمار أو قتل.نعم إن دويلة الصهاينة زائلة لا محالة ، لكن كل ما يستخدم اليوم لتحقيق ذلك من أدوات ومنها مقاومة حماس ليس فاعلا وليس هو السبب في زوالها ولن يكون كذلك أبدا، والأمر لله من قبل ومن بعد.