حديثنا اليوم عن النفوذ والتأثير، قد يعتقد كثير أنهما أسلوبان مترادفان؛ أي إن كنت تمتلك الأول فمن الطبيعي أنك تمتلك الآخر، بينما لو أننا تفحصنا ودققنا في الأمر سنجد أنهما يعملان بطرق مختلفة.

شرح أحد المفكرين كيف أن «النفوذ لعبة محصلتها صفر؛ كلما وزعت، قلت، بينما التأثير كلما وزع زاد ونمى»، للتوضيح تخيل أن لدى فرد ما نفوذا كاملا مع قدر قليل من التأثير، كل طلباته أوامر، ثم في يوم قرر أن يشارك هذا النفوذ مع مجموعة من الأفراد، لنقل تسعة آخرين، بهذا يصبح له عُشر النفوذ الذي كان يمتلكه في البداية، من جهة أخرى تخيل أن فردا يتمتع بقدر معين من التأثير وقرر أن يشارك هذا مع تسعة آخرين، الناتج أنه أصبح لديه عشرة أضعاف التأثير الذي كان يتملكه، لأنه ببساطة أصبح الآن عشرة أشخاص يقومون على إيصال الرؤية، لنأخذ نفوذ قريش وتأثير نبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، النفوذ غاب وبقي التأثير.

ثم أننا لو أخذنا كيفية التنفيذ في مجال القيادة بمعنى حمل الآخرين على اتخاذ إجراءات لإكمال المهمة؛ نجد أن النفوذ يجبر الأشخاص على إكمال المهمة بينما يساعدهم التأثير على فهم سبب ضرورة هذه المهمة، بمعنى آخر يعتمد النفوذ على السلطة الوضعية بينما يعتمد التأثير على بناء العلاقات حيث تظهر القدرة على تعديل كيفية تطور الفرد أو سلوكه أو تفكيره بناء على العلاقات والإقناع، وهذا ما يؤدي غالبا إلى الاحترام، ولهذا حينما تمارس القيادة من منطلق النفوذ غالبا ما يؤدي ذلك إلى الاستياء.

الإكراه والترهيب في القيادة قد يؤديان إلى حمل الآخرين على اتخاذ قرارات غير سليمة وأحيانا كارثية، لنأخذ مثلا مارتن وينتركورن، الرئيس التنفيذي لشركة فولكس فاجن، كيف أن أسلوب القيادة عنده كان استخدام النفوذ، لقد كان أسلوب إدارته استبداديا مما أدى إلى تعزيز مناخ الخوف، حيث إنه كان قائدا يمقت الفشل يرفض سماع المشاكل من الإداريين أو المهندسين، بل إنه خلق ثقافة عقابية، ويعتقد البعض ممن عمل معه أنها ذلك كان السبب الرئيس الذي أدى إلى الغش من قبل بعض المهندسين خوفا من عدم تحقيق الأهداف التي حددت لهم، وهنا نرى كيف أن التركيز المفرط على تجنب الفشل أدى إلى الفشل وإلى خسارة مالية ضخمة للشركة.

إن أهم أشكال القيادة لا تأتي مع المنصب أو اللقب أو الكرسي، ولا تأتي بالهيبة والتسلط، بل من خلال القدرة على حشد الآخرين للعمل بطرق معينة، وإن تم لهم ذلك لا يكون من خلال أي سلطة تعتمد على معاملة الناس كوسائل وليس كغايات، أو تعاملهم على أساس أنهم جماد مجرد أرقام ونسب وحسابات، بمعنى لا تقيم أي اعتبار لإنسانيتهم!

أهم أشكال القيادة تأتي مع الاستعداد للعمل مع الآخرين لتحقيق ما لا يمكن القيام به بمفردنا، القيادة المنفتحة على الآراء والاختلاف، التي تشجع وتثني وتقدر المساعي، التي تحرص على النمو والتطوير ولا تعتبر تميز البعض تهديدا لها، قيادة تركز على الاستدامة حيث تحرص على خلق قيادات فاعلة متمكنة مبدعة، قيادات تساعد في تغيير من حولهم إلى أشخاص يمتد تأثيرهم ليس فقط إلى البيئة الحاضنة، بل إلى تغيير العالم، وهذا ما تسعى إليه رؤية 2030 منذ انطلاقها، لقد تحدثت إلى احتياجات الناس وتطلعاتهم ورسمت الطرق وأوضحت الوسائل للتوصل إلى ما يمكنهم من تحقيق كل ذلك كعمل جماعي، ومهندس الرؤية تمكن من إحداث الأثر من خلال قوة الرؤية، والثبات وقوة الشخصية، والقدرة على التعبير ليس فقط عن التطلعات بل أيضا على التعبير عن المثل العليا المشتركة بلغة وصلت للناس أفعالا مع الأقوال. ما نحتاجه الآن هو مناخ نعترف أن المشاكل فيه لا تختفي وأن الفشل وارد، وأن تكون الطرق مفتوحة لإبلاغ روسائنا في العمل بها علانية ودون تردد أو خوف، نحن بحاجة إلى ثقافة يكون فيها من الممكن والمسموح الجدال مع رئيسك حول إيجاد أفضل السبل للحل، لأن الثقافة التي لا تشجع على الحوار المفتوح وترفض الفشل وتعاقب عليه، يمكن أن تؤدي إلى الغش والاحتيال، بينما من ناحية أخرى، الثقافة ذات المعايير العالية التي تتبنى التعلم المستمر وتؤكد عليه، تعمل على تنوع المواهب والقدرات، تتقبل الفشل وتأخذه على أنه آلية لتشجيع الحوار والنقاش وتعتبره فرصا للنمو، ولا تعتمد على المركزية في صنع القرار وتبادل المعلومات، تخرج بفائدة تشمل الجميع؛ من القادة إلى كل من يعمل معهم أو يقع في دائرة تأثيرهم، ما نحتاجه هو مناخ يظهر فيه القائد المؤثر ويختفي المتسلط.