أنا لم أقسم في حياتي على عدم البوح أو الإفشاء بسر من أسرار الوطن. لم أضع في حياتي مصحفاً شريفاً بين يدي، وفوقه يكون الله نصب عيني ثم أبدأ بعدها تراتيل القسم الجهري بأن أتحمل أمانة هذا القسم أمام الله عز وجل قبل كل شيء، ثم أمام هذا الوطن الذي يقسم المرء طائعاً مختاراً من أجله.

والخيار أمام المرء هما طريقان لا ثالث لهما: إما أن تقبل المسؤولية الكبرى وتحمل الأمانة التي حملها الإنسان ثم تدرك أن الأمة من حولك سفينة هائلة تموج في بحر لجي فلا تنزع منها – المسمار – الذي أؤتمنت عليه ثم أقسمت لأجله، وإما أن تعيش حراً مستقلاً، وفي أضعف الأحوال، ستعطيك هذه الحرية وذلك الاستقلال براءة من كتاب الله الذي أقسمت عليه.

لم أقسم في حياتي بمثل ذاك ومن المؤكد أنني سأنهيها وأنا في حل من هذا القسم. ولكن: يطربني جداً إعادة قراءة ثلاثة من جنود اليابان أيام الحرب العالمية وهم يقطَّعون إرباً بعد إرب، وواحد يشاهد من قبله وهم في الأسر فلم يكشف منهم أحد جواباً لكل سؤال تحت التعذيب حتى وهو – البوذي – الذي لا يفقه ولا يدرك عظمة هذا المصحف.

أحترم وفاء – اليهودي – جلعاد شاليت العائد من أسر الإخوة في غزة المجاهدة وهو يقول بالحرف في أول مؤتمر صحفي بعد الإفراج: لم أكن أحمل أسراراً جوهرية تستحق الإخفاء والصمت ولو كنت أحملها لما نطقت بها حتى ولو كنت سأذهب ضحية هذا الفعل. هذا وهو اليهودي الذي قال عنه والده غاضباً من حكومته يوم كان في الأسر: كان ولدي يقاتل جبراً بلا راية وبلا هدف.

أقرأ بحرقة أن موظفة صغيرة في مجلس الأمن القومي الأميركي ـ ومن أيام هنري كيسنجر – رفضت بعد ثلاثين عاماً، وتحت إغراء المال، أن تبوح بأسرار الطاولة، إلى دار نشر مثل (فريدوم هاوس رغم أن القانون يتيح لها ذلك عبر قانون التقادم الزمني النسبي الشهير في قوانين النشر الحكومي الأميركي).

أقف احتراماً لتلك القصص التاريخية التي تواترها هذا العالم عن الفيتنامي أيام حرب فيتنام وكيف كان صندوقاً مغلقاً أميناً على أسرار بلده رغم آلاف القنابل ورغم طوابير الحشر إلى شبك الأسر. كل هؤلاء لم يحملوا مصحفاً شريفاً ليقسموا عليه مهما كانت الظروف ومهما بلغت القسوة. وعلى النقيض ما هو رأيكم في من يفعل العكس من غرفة باردة مكيفة؟

الأوطان هي حياة أمة ومستقبل أجيال وأمن ملايين واطمئنان خمسة ملايين أسرة يعبرون في سفينة واحدة. أسرار الأمة لا تكون جهراً في إذاعة عمومية.