إن اتفقنا على أن من أهم الأهداف التي يجب أن تتوخاها أية محاولة لإصلاح نظم التربية والتعليم في العالم العربي هو أن يسترد شباب أمتنا احترامهم لتراثهم الفكري، والرغبة في الاستزادة من الاطلاع عليه، والقدرة على النظر فيه، فالأجدى أن نبدأ بالاعتراف بأن الحصيلة التي يخرج بها أبناؤنا من اللغة العربية بعد انقضاء سني دراستهم لا توفر القدرة على فهم ما كتبه القدماء، وأن النماذج التي تدرّس لهم في المدارس لأدب هؤلاء، كهجاء الفرزدق لجرير، وفخر المتنبي بنفسه، ومدح الأعشى لوالي الحيرة. في كتب رديئة الورق، سيئة الطباعة، قبيحة الصور، لا يمكن أن ينجم عنها احترام حقيقي لتراث العرب كذلك الاحترام الذي ينجم لديهم لآداب الفرنجة حين يدرسون في حصص أخرى مسرحية لشكسبير، أو قصائد لكيتس في كتب أنيقة الطباعة، بهية الصور والإخراج.

لقد أقدم الغربيون منذ بعض سنوات، من أجل تعزيز إلمام شباب الغرب بتراثه والجذور الفكرية لحضارته، على إخراج مجموعة من الكتب تحت عنوان Great Books of the Western World. تضم أربعة وخمسين مجلدًا أصدرتها دائرة المعارف البريطانية، من هوميروس إلى فرويد. هذه المجموعة باتت تشكل جزءًا من أثاث معظم العائلات المثقفة القادرة على اقتنائها في أوروبا وأمريكا الشمالية.

فإن كان عالمنا العربي قد نشر فيه بالفعل عشرات الآلاف من كتب التراث، فإن شبابنا يضل في متاهاتها، ومعظمهم عاجز عن اقتناء ولو اليسير منها، مفتقر إلى من يهديه إلى القمم الشامخة فيها، ويثنيه عن النظر في تافه الشأن منها.. فلو أن حكومة من حكومات دول العربية تبنت مشروعًا كمشروع دائرة المعارف البريطانية، وشكلت لجنة من عشرة أو عشرين من العلماء المتبحرين في التراث العربي، المدركين مع ذلك لطبيعة ذوق شباب أمتنا المعاصر، فانتقت بعد النقاش والفرز وتمحيص الآراء المختلفة أعظم مائة كتاب، مثلا من المؤلفات العربية منذ امرئ القيس إلى الجبرتي، واستبعدت من هذه الكتب المائة الغث الكثير الذي تحفل به كتب عظيمة كأغاني أبي الفرج أو السلوك للمقريزي، وأبقت على بعضها الآخر بصورته الكاملة، (كمقدمة ابن خلدون)، و(حي بن يقظان)، لابن طفيل، و(فصل المقال) لابن رشد، ونشرتها في خمسين أو ستين مجلدًا أنيقًا بسعر في متناول أبنائها وتحت نظرهم في كل يوم، لأسدت بهذا الصنع خدمة جليلة لأبناء جيلنا والأجيال التالية، إذ تصل بينهم وبين ماضيهم.


ويا حبذا لو تبع ذلك ترجمة كاملة لمجلدات مجموعة (أعظم كتب العالم الغربي)، فيجمع شبابنا بين الحسنيين. وأذكر هنا أن اللجنة التي نهضت بالمشروع الغربي كانت تعتزم في البداية أن تضم المجموعة أعظم كتب العالم، ثم عدلت عن ذلك، واكتفت بكتب العالم الغربي، على أساس أن أبناء الحضارات الأخرى أقدر على تقييم كتب حضاراتهم من غيرهم. ووعدت في مقدمة المجموعة بأنه متى أخرجت الأمم الأخرى مجموعات مماثلة، فقد تضمها جميعًا في مجموعة ضخمة واحدة، هي تراث الإنسانية، لاشك أن من شأنها أن تسهم إسهامًا عظيمًا في إقامة الجسور الفكرية بين الحضارات. ولا بأس هنا من أن أدلي بدلوي في هذا المجال، فأورد قائمة مبدئية بأسماء ما أعتبرها أهم مائة كتاب في التراث العربي القديم، وهو اختيار شخصي كأن ثمرة أكثر من خمسين عامًا قضيتها بين كتب التراث. ولاشك عندي في أن غيري قد يعترض على إيراد بعض المؤلفات في هذه القائمة، أو على إغفال بعض المؤلفات منها.. غير أن الأمر لا يعدو ـ كما ذكرت ـ مجرد إدلاء بدلو، وفتح باب المناقشة، وقد يكون بمثابة أول خطوة في سبيل تدشين المشروع:

أهم مائة كتاب في التراث العربي القديم ومنها في نظري (المعلقات السبع.. شرح الزوزني)، كليلة ودمنة لعبدالله بن المقفع، السيرة النبوية لمحمد بن إسحاق، ديوان بشار بن برد، كتاب سيبويه في النحو، ديوان أبي نواس، الرسالة للشافعي، المغازي للواقدي، طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي، الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد).