حاجتي إلى من يمكن الاعتماد عليه، في متابعة الكثير مما تنشره الصحف و المجلات وملاحق الصحف، وتزويدي به، لتتاح لي معايشة ما يدور، ويطرأ في ساحة الفكر في المملكة، أصبحت أكثر من ملحة... ولكن تظل هذه الحاجة قائمة في حياتي، وفي علاقتي بالحياة الفكرية، ولا سبيل إلى تحقيقها ... لأسباب يطول شرحها، بل قد يتعذر أيضًا، ولكن أهمها (وجود) هذا الذي يمكن الاعتماد عليه، بمؤهلات معينة أنا الذي يحددها، وليست بالضرورة مؤهلات جامعية ، ولكنها بالضرورة الحاسمة والصارمة، إدراك أو معرفة ما يهمني أن أتزود به من جهة، إلى جانب الإلمام (المعقول أو المقبول) بقواعد اللغة العربية و(إملائها) من جهة أخرى ولا أبالغ إذا قلت أن تجربتي، في البحث عمن تتوافر فيه هذه المؤهلات، وعلى الأخص منها ذلك الإلمام (المعقول أو المقبول)، قد انتهت ولا تزال، إلى اليأس.

وأكتب هذه المقدمة لأقول، إني لم أعلم، أن الأستاذ سعيد مصلح السريحي، قد استطاع أخيرًا أن يقتلع مؤهل الدكتوراة من تلك الصخرة، التي ما أكثر ما سمعنا عن صلابتها وصعوبة اقتلاع هذا الجلمود منها، بالنسبة لموضوعها بالذات... لم أعلم بذلك، إلا من حديث عابر بيني وبين الأستاذ عبدالفتاح أبومدين، رئيس النادي الثقافي الأدبي بجدة.

والواقع أني كنت أستغرب تعثر رسالة الأستاذ السريحي للدكتوراة، في أجواء الإشراف والمناقشة، أو في منعرجاتها وإنفاقها، لأن هذا الشاب، بالذات، كان ولا يزال يملأ ساحة الفكر عندنا بمشاركاته العلمية الواعية والمتمكنة، وبآرائه التي تصدر عن فكر تتوافر له خصيصة الإشعاع بالجديد الذي كثيرًا ما واجه حركة رفض ساخطة، بلغ من توترها في هذا السخط أحيانًا، أن تجاوزت حدود الحوار العلمي، إلى ما يشبه القذف والاستعداء.

ومع أن الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين، قد حدثني عن الساعات الخمس، التي ظل فيها السريحي، فيما يشبه (المعصرة) بين أعضاء المناقشة، فإنني لم أستطع أن أذكر أو أتذكر أسماء حضرات الأساتذة الأعضاء، ولكني لا أنسى ملاحظة الأستاذ أبو مدين عن أحدهم، الذي بلغ من تشدده - وحده - حد من يحرص على أن يخرج السريحي من المعركة بقرار تأجيل المناقشة سنة أخرى تضاف إلى السنوات التي مضت، والرسالة تعاني تأرجحًا، ومقاذفة، بين حضرات الأعضاء.

والساعات الخمس التي قضاها السريحي في هذه (المعصرة) الرهيبة، ذكرتني بالكتاب الذي نال به مؤهل الماجستير، وهو (شعر أبي تمام بين النقد القديم ورؤية النقد الجديد)... والذي كان رسالة لهذا المؤهل نوقش علنًا بكلية اللغة العربية بجامعة أم القرى طوال خمس ساعات أيضًا، لقد حدث أن أهداني الأستاذ الدكتور سعيد مصلح السريحي هذا الكتاب، منذ أربع سنوات وكنت وقتها أتهيأ لقضاء إجازة الصيف في اليونان...

وأختار الكتب التي أفرغ لقراءتها في أيام هذه الإجازة .. وأذكر أني اخترت كتاب (كانديد لفولتير) مترجمة إلى الإنجليزية وكتابًا عن مسرح اللامعقول أو العبث لكاتبه (مارتن إسلن)... وقلت: ما الذي يمنع أن أختار أيضًا كتاب السريحي، وذلك بعد أن تصفحت فصلاً أو أكثر من فصوله وأحسست أن الكتاب، يختلف عن كثير من الكتب التي فاز مؤلفوها بمؤهل الماجستير أو الدكتوراة... فيه أكثر من مجرد (التحقيق)، وأعني تحقيق مؤلف من التراث ، يزدحم بالهوامش الكثيرة عن المخطوطات، والمراجع التي يعكف المؤلف على استيعابها، ليؤكد ما بذل من جهد طائل... كثيرًا ما أحسست أنه -وأعني الجهد - ذاهب في الهواء، ليس لأن الكتاب المحقق من كتب التراث لا أهمية له، أو لا جديد فيه، وإنما لأن التحقيق، لم يضف شيئًا إلى الكتاب، أو إلى ما يتطلع إليه القارئ من قراءته واقتنائه.

وما أزال أذكر كيف استهواني كتاب السريحي، بل كيف استطاع أن يعيد إلى ذاكرتي الكثير مما أهال عليه الزمن التراب، من فنون البلاغة، ومنها الاستعارة وأثرها في الإبداع, ليس في اللغة العربية فقط، بل حتى في اللغة الإنجليزية... وهذا إلى ما ظللت أتابعه فيه من دفاعه أو تصديه للدفاع عن أبي تمام في مواجهة من هاجموه وحطوا من قدره من القدماء واحتدام أسلوبه في هذا الدفاع، مما يشعرك بأن الكاتب، يؤصل أو هو يؤسس مدرسة في النقد والكتاب بين يدي الآن، وأتمنى لو أجد متسعًا من الوقت، للتحدث عن النقاط التي وقفت عندها في بحثه، متسائلًا، أو مستكثرًا إمعانه في تبرير ما أخذ على أبي تمام أو عيب عليه، وكان وقوفه أمام ابن الأثير والجرجاني وغيرهما ممن عابوا الكثير من شعر أبي تمام، وانحيازهم أو انتصارهم للبحتري، في حد ذاته، دليلاً على أن الكاتب، يتمرد على نوع من (الاتباعية) في النقد لنا هنا في المملكة، أن تزهو بها، وأن نلتمس لها السبل إلى الذيوع والانتشار بين مدارس النقد العربي في العصر الحديث.

ولا أدري متى يطبع السريحي رسالة الدكتوراة التي اقتلعها من الصخر... وإني لأتطلع إلى اليوم الذي أجد دارًا من دور النشر، تحتفي بهذا الناقد، فتنشر رسالته لتقول للعالم العربي... أو للأديب العربي في هذا العالم... ها نحن، نسهم في حركة النقد بما يحق لنا أن نعتز به، وأن نكون في المقدمة، من حملة رسالة النقد المنهجي الأصيل.